ويمكن القول إننا نُنْصِف مؤلّفها إذا قرأناه بوصفه تعبيراً عن هذا الحبّ قبل أي شيء. إذ إننا إزاء عمل ينشغل تماماً بالآخر، شخصاً ومكاناً، إلى درجة يغيب معها على نحو شبه كلّي حضور المؤلّفة كموضوع لكتابها.
في نصوص قصيرة نسبياً، مكتوبة بين 2005 و2013، تروي بونتان حيوات بشر وأماكن وأحداث ومشاهد. سرد عالٍ، لا ينحدر إلى الإخبارية المكتشِفة والمبهورة أمام الآخر، بل يرسم مشاهده بحرفية، مندفقاً حيناً مع تدفّق ما يصفه، ومتمهّلاً حيناً آخر لإفساح المجال للتفكير في ما يجري وفي ما وراءه.
هو جدْلٌ محكمٌ لكتابة تسجيلية مدوّنة بممحاة لا تُبقي إلا الضروري، ولتفكيرٍ، لا يفارقها، في الناس والمكان والتاريخ (الحاضر والماضي) والهجرة والسياسة والاجتماع والثورة والخوف والشجاعة. الشعرية الخافتة، التي انكتبت بها غالبية الصفحات، تمنحها قواماً نثرياً يجعل النص أحياناً قطعة أدبية جمالية في حدّ ذاته، رغم البعد التسجيلي (الواقعي)، ورغم "عادية" العناصر التي ينطلق منها.
ضروريٌّ القول، هنا، إن هذه الشعرية لا تأتي من الأعلى، من "مخيال أجنبي"، أو من تهويمات وردية تفرض نفسها على قساوة الواقع أو تحاول أن تبني واقعاً مجمّلاً موازياً له. إنها شعرية المكان نفسه من عينٍ تراه جميلاً رغم بؤسه البادي. هو جمال الواقع وناسه، وحيويته، ومبانيه المتكدسة، المرفوعة على عجل، وجدرانه القرميدية المتشققة، وشوارعه الضيقة، وأطفاله الذين يلعبون فيها، وبسطاته، ومحلات الفلافل والشاورما فيه، وعجائزه اللواتي يجلسن على العتبات.
إن الكتابة بإخلاص عن حيوات وأماكن لم يعد كثيرٌ منها على حاله، بل وربما لم يعد موجوداً بالمطلق، لموقفٌ أدبيّ وإنساني في الوقت نفسه. إنها كتابة تعيد إلى تلك الحيوات والأماكن بعض حقها.
قلّما يدخل سرد نتالي بونتان قلب دمشق. كأنّه معنيّ، قبل كل شيء، بالغرباء، الذين لا يبقون جغرافياً فحسب على أطراف المدينة، بل وعلى أطراف السعادة وراحة البال والاستقرار أيضاً. جزء لا بأس به من الشخصيات يعيش كربه الخاص، ورغبته في التغيير، في حياة أفضل، في الهجرة، في الخلاص، في الضحك، أو البكاء، في السكْر، والنوم، في العلاج، في الخروج من البيت هرباً من فراغه، أو في العثور على بيت هرباً من الخارج.
هذا الفوران الاجتماعي، الذي ترسمه بونتان في نصوصها المكتوبة بين 2005 و2010، سيجد مكانه في الانتفاضة التي يتوقف لديها الفصل ما قبل الأخير من الكتاب. هنا، نرى جزءاً من الشخصيات، التائهة سابقاً، وقد عثرت على نفسها. الصمت يتحول صراخاً لدى البعض.
تخفّ الشعرية، ويعلو صوت باصات الأمن والشبّيحة والدبابات التي تجتاح درعا. في الفصل الأخير، الذي يعود إلى ما آلت إليه أحوال الشخصيات مع نهاية 2013، لن يعلو صوتٌ على صوت القصف والمعارك.