في كتابه "فلسفة السينما.. الصورة السينمائية بين الفكر والفن"، الصادر حديثاً عن منشورات "المدارس"، يواصل الباحث المغربي في الفلسفة، عبد العالي معزوز، سبر أغوار مباحث الصورة فلسفياً، فلا يتوانى عن التذكير، بأن الفلسفة العربية ظلت بمنأى عن التفكير في قضايا الاتصال والصورة والميديا، كما لو أنها قضايا شبه فلسفية أو غير فلسفية على الإطلاق؛ وهو ما يفسّر بقاء عالم الاتصال والوسائط منحصراً في دائرة التقنيّين والإعلاميين، بدل أن يُبسط على طاولة التفكير.
لذلك عمل في كتابه الجديد، على استِشْكال الصورة السينمائية، وحاول إعمال الفكر في تَفهُّم هذا اللّون من الصور، باعتماد المقاربة الفلسفية، مع إبرازه أيضاً لأنواع الإمتاع الفني والتذوّق الجمالي المُحايِث للفيلم السينمائي، باستلهامه للمقاربة الجمالية والفنية.
فهل من حقِّ الفلسفة أن تتخذ لنفسها موضوعاً خارج مباحثها المألوفة؛ مثل "الميتافيزيقا" وعلاقاتها بالوجود، و"الإيتيقا" وعلاقاتها بإشكالية الفعل الإنساني، ثم "الإبستمولوجيا" وصِلتها بالفهم والعقل البشري؟
يجيب المؤلّف، بأنّ "كلّ الموضوعات قابلة للتفكير الفلسفي والتأمل النقدي بما فيها الصورة"، فقد انتهى "الزمن الأفلاطوني المناوئ للصورة بما هي أيْدولون [Eidolon] وشبيه ونسخة مكرورة [Simulacre] أو ظلّ يدعو للتوجس والشك".
على هذا الأساس، استعاد فلاسفة أمثال جيل دولوز (1925-1995) مشروعية التفكير الفلسفي في الصورة، بعد عداء أفلاطون المستحكم لكلّ ما هو صورة أو بالأحرى لكلّ ما هو سيمولاكرْ. لكن الآن "يمكن الحديث عن هذا القِران الفلسفي والسينمائي في ما يدعى بالفيلمولوجيا والذي يعود الفضل في نحته إلى إيتيان سوريو (1892-1979)".
هنا لا يتردّد معزوز، في التنبيه في بداية كتابه الذي قسّمه إلى تسعة فصول، إلى أنه لا يريد ببحثه هذا، "أن يتم إخضاع الوسيط السينمائي إلى فلسفة مُطبّقة، بقدر ما يمكن أن يكون المرمى هو العثور على عناصر سينمائية من أجل إخضاعها للتأمل الفلسفي".
لذلك سيكون التفكير في السينما أساسياً، بحسب الباحث، الذي يعتبر أن من شأن ذلك أن يلقي الضوء على كثير من التقنيات وعلى كثير من الطرائق والأساليب؛ فالسينما هي نمط خاص من الفكر، وتوجد بين الصورة السينمائية والمفهوم الفلسفي ألف علاقة. وبما أن المفهوم كما يتناوله مارتن هايدغر (1889-1976) مركّب، فليس من السهل الاستعانة بالمفهوم البسيط لمقاربة الصورة الفيلمية.
يقول المُؤَلِّف: "بحسب دولوز ثمّة مفاهيم فلسفية في السينما، ولكنها مفاهيم تُبنى ولا توجد جاهزة، تلك المفاهيم ليست معطاة في السينما، ولا في نظرية ما للسينما، الصورة السينمائية هي نفسها تتحرك نحو الفكر ولا تحتاج إلى أن يتحرّك الفكر نحوها".
يتّضح هنا الاختلاف بين الصورة السينمائية والصور الثابتة؛ مثل الصور المرسومة. فالطابع المفهومي للفيلم يرقى به فوق الدلالة المَحضَة، إذ أن السينما وسيط تعبيري صحيح، غير أن خلوّ الفيلم من الفكر يجعله بدون معنى. لكن يجوز التساؤل أيضاً؛ أنّى لصورة سينمائية آلية أن تفكر؟ أو بأي معنى تفكّر السينما؟
"السينما لا تفكّر سوى بمعنى تحفّز الفكر على التفكير"، هكذا جاءت إجابة الباحث في الفلسفة، موضحاً أن "التّفَكُّر هو الفعل الذي تستحِثُّه السينما، أو لنقل التأمل الذاتي. فهناك محاولة دائبة، من المشهد الصفر إلى المشهد البعدي، للتنقيب على المفهوم الفلسفي في الإدراك وفِي الانفعال.
لهذا يرى المؤلف، أن الفلاسفة ليسوا وحدهم من يختصّون بحقل التفكير الفلسفي في السينما، بل ينضم إلى هذا الحقل بعض المخرجين أنفسهم الذين يملكون نظرات فلسفية في الصورة السينمائية وفِي التوضيب (المونتاج)؛ فتولّدَ عن هذا الزواج فريق من السينمائيين لا تقلّ نَظراتهم عمقاً عن كبار الفلاسفة.
من داخل السينما إذن، يمكن تمرينُ التفكير الفلسفي على الصورة السينمائية من حيث حركتها وديمومتها، وكذا من حيث تحويل الواقع إلى مشهد أو عرض، أو من حيث تَوسُّلها بالتعبير عن طريق الإيحاء والاستعارة والمجاز. ويختص بهذا المعنى المحدود للسينما، مبدع الأفلام أو ما يسمى "سينما المؤَلّف" أو ما يَنسحب على "سينما التأليف".
لقد قارب المُؤَلِّف هنا الرؤى الإخراجية لبعض المخرجين التي أضفت على أعملهم السينمائية طابعاً إبداعياً مُتفرِّداً، باعتبار أن المنظور الإخراجي أو الرؤية الإخراجية محدّدٌ أساسي في العملية الإبداعية في السينما. فالفن السينمائي هو ما يقدّم صورة للعالم يختزله في الجميل، عبر رؤية إخراجية متفرّدة، سواء اعتمدت التخييل أو اختارت التوثيق.
بهذا لا تنطبقُ الجماليات، التي تعدّ فلسفة للفن، على السينما إلاّ إذا تعلّق الأمر بحساسية جمالية وبتَلقّ جمالي، دون إغفال نية المُخرج الجمالية وتوظيفه وسائل بصرية لتحقيق تلك النية.
لكن "الجميل السينمائي متعدّد، ومتغيّر، ولا تعريف ثابت أو خالد له. وهو تابع لمحدّدات غير ما اعْتَدْنا أو دَرَجْنا عليه في الجماليات غير السينمائية"، وهو الأمر الذي يستدعي، بحسب الباحث دائماً، من جماليات السينما أو جماليات الفيلم أن تتطوّر، وأن تُقحَمَ في حركية وديناميكية، وأن تجدّد حسب أطر ومقتضيات الجماليات الحديثة.
لا بدّ من الإشارة هنا، إلى أن الاهتمام بجماليات السينما كان في الماضي أبعدُ من التصوُّر، لأن السينما في بداياتها كانت مجرّد فُرْجَة سيرك أكثر من كونها فنّاً قائم الذات، وهو ما استدْعى الحاجة إلى جماليات السينما وإلى نظرية سينمائية لهذا الوسيط الذي أنتجه الانفجار التكنولوجي الحديث.
بهذا المعطى تكون السينما منذ البداية -من حيثُ كونها وسيطاً جماهيرياً، وصناعة ثقافية، أو على الأقل تعمل على ترويج صناع ثقافية- تجلّياً من تجلّيات الحداثة لأمرين: "لأنها إعادة إنتاج للحركة بكيفية آلية، وأيضاً لأنها تُعيدُ توليف وتركيب الأجزاء المصوّرة".
يبقى أن هذا الوسيط الجماهيري الحديث، يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى نظريات نقدية؛ كما هو الشأن بالنسبة لمدرسة فرانكفورت التي يهمّ نقدها الثقافة المعاصرة، والتي تسمى أيضاً الصناعة الثقافية، والفن المعاصر.