يختلف المؤرّخون حول دور العرب في تطوير العلوم الطبيعية، بل إنه يمكن القول إن الكتابات التي تمجّد منجزهم باعتباره نقلة نوعية قادت لاحقاً إلى تحديث أوروبا الغارقة في الظلمات، جاء رداً على نظرة عدائية من قبل عدد من المستشرقين تنزع عن الحضارة العربية إسهاماتها في التاريخ الإنساني.
ارتبطت حقول علمية عديدة بخرافات من خارجها، والتي وُلد من رحمها الشغف عند علماء المسلمين الذين بحثوا بشكل أساسي ضمن اشتغالاتهم في الكيمياء عن إكسير الحياة الذي يطيل العمر ويعيد الشباب، حيث كانت انبثقت مرجعياتها الأولى من السحر والتنجيم، لكن التجربة العلمية قادتهم إلى التخلّص من معظم تلك المغالطات، ليؤسسوا منهجاً علمياً يحكم اشتغالاتهم التي أصابت في موضع وأخطأت في مواضع أخرى.
من هذه الخلفية، تنطلق الكاتبة والباحثة الأردنية مجدولين أبو الرب في كتابها "التَّفكير العلمي عند علماء العرب والمسلمين: علماءُ الكيمياء أنموذجاً"، ضمن "منشورات عمّان عاصمة الثقافة الإسلامية 2017"، إذ تعود إلى نشأة السيمياء (فن تظافر المعادن) من خلال تجارب لتحويل المعادن الرخيصة إلى فضة أو ذهب سمّوه "حجر الفلاسفة" الذي يضمن الخلود.
يوضّح الكتاب أن هذا التيار هو الذي ساد في الحضارة العربية الإسلامية، لكن أتباعه اضطروا إلى إجراء مئات التَّجارب لتحقيق هدفهم، ليسلكوا اتِّجاهاً ﻋﻠﻤﻴﺎً تجريبياً واﺿﺤﺎً أدّى إلى جعل الكيمياء علماً له قواعده وأصوله.
لكن المسألة الأهم التي تبرزها المؤلّفة تكمن في اختلاف العلماء حول ذلك، فقسم منهم حارب هذا التوجه، مثل ابن سينا الذي أقام الحجة على بطلان تبديل طبائع الأشياء وتحويل بعضها إلى بعض. أما الفارابي فوقف موقفاً وسطاً؛ حيث رأى أنَّ "تحوُّل الأشياء بعضها إلى بعض متوقِّف على نوع الصفات المُراد حذفها أو إضافتها"، مقابل إيمان الرازي وجابر بن حيان بإمكانيات الكيمياء على عمل تلك الخوارق، لكن سجالاتهم عبّرت عن حراك علمي قاد إلى كشوفات لا حصر لها.
تشير أبو الرب في مقدّمتها إلى دوافع دراستها علم الكيمياء؛ كونه أحد العلوم الذي يوضّح بالملموس انتقاله من النظرية إلى "مستوى تجريبي كشف عن العلاقات الحقيقية بين الظواهر بعضهـا مع بعض، ويحترم عقل الإنسان.. وفي الوقت نفسه يمنع من التَّسليم بالخرافات والأوهام".
يتتبع الفصل الأول خصائص التفكير العلمي عند الكيميائيين المسلمين؛ الموضوعية والمنهج المنظّم والدقة والضبط والسببية، مع الإشارة إلى المصطلحات الموازية التي كانت تستخدم للتدليل على هذه الخصائص في عصرهم، غير مكتفية بهذا الوصف العام، حيث تقدّم أمثلة واضحة عليها، ومنها حسابات أوزان المعادن والعناصر التي توصل إليها البيروني والخازني، ومقارنة خمسة عشر منها بوزنها الحقيقي في العصر الحديث، لتبدو الفوارق طفيفة لا تُذكر.
يدرس الفصل الثاني قواعد المنهج التجريبي في الكيمياء التي أرساها العلماء العرب، حيث كان التجريب مصدراً أساسياً إلى جانب ما خبروه في تعليمهم (الأكاديمي) في المدارس، وترجمة العلوم عن الحضارات الأخرى، وفي مقدّمتها الإغريقية. وقد استعرض الكتاب هذا المنهج ونتائجه بالتفصيل لدى الرازي وابن حيان والكندي والحسن الهمداني والمجريطي والبيروني والجلدكي وأبو القاسم العراقي.
تُفرد الباحثة الفصل الثالث لمنهج العلماء العرب والمسلمين في الترجمة، التي رغم كونها قاعدة استندوا من خلالها على أحدث معارف الهند وفارس واليونان، إلا أن منهج الشك ونظرتهم النقدية لم يفارقا ترجماتهم. وتتناول في الفصل الرابع معيقات التفكير العلمي في المجتمعات العربية والإسلامية التي تلخّص أبرز عواملها في الأسطورة والخرافة، والخضوع للسلطة الفكريّة والعلميّة السائدة، وإنكار قدرة العقل، والتعصُّب، وتُجري مقارنة بين الماضي واللحظة الراهنة.