ليس كتاب "مفهوم الأدب" (دار نينوى، ترجمة منذر عياشي) سوى مجموعة من المقالات النقدية التي جمعها مؤلفها المنظّر الأدبي تزيفتان تودوروف (1939 - 2017) عام 1978 في آخر سنوات اشتغاله بالأدب قبل الاهتمام بشؤون الحياة العامة والأنثروبولوجيا الثقافية والتاريخ.
في أوّل مقالات هذا الكتاب، يعود تودوروف إلى سؤال كلاسيكي: "ما الأدب؟"، ويبرز نزعة ريبيّة تجاه هذه الكلمة، حيث تُستعمل بكثير من الأريحية في المؤسسات الجامعية وخارجها. يوضّح المؤلف أن كلمة "أدب" بمعناها الحالي حديثة العهد في اللغات الأوروبية، يعود تاريخها كأقصى حد إلى القرن الثامن عشر. أما الزمن المعاصر، فالمسألة أكثر تعقيداً، حيث توضع تحت هذا الاسم منوّعات كتابية لا تحصى ورغم ذلك لا نتشكك حين نصنّف هذا الكتاب أو ذاك النص على أنه أدب.
هنا يحاول تودوروف تقديم خصائص تساعد في تمييز الأدب عن غيره. ويجعل من التخييل معياراً أول حين يعود إلى رأي أرسطو بالفن كمحاكاة، وبما أن الفنون تتنوّع باختلاف المواد المستعملة في تنفيذها، فالأدب إذن محاكاة بواسطة اللغة، كما أن الرسم محاكاة بوساطة الصورة. لكن تودوروف لا يكتفي بمفهوم "المحاكاة" فيصرّ على مفهوم "التخييل". الأدب لا يقلّد الواقع بالضرورة، ولكنه أيضاً يبتكر كائنات وأفعالاً ليس لها وجود، وهو لا يخضع بالتالي لاختبار الحقيقة والزيف.
أما المعيار الثاني، فهو الجمالية وهو معيار لم يكن ممكناً الحديث عنه قبل القرن الثامن عشر حيث أصبح لـ"الجمالي" تعريف ودلالة تجعل منه السمة المميزة والجامعة لكل أشكال الفنون.
وفي مقال "القراءة كعملية بناء"، يتحدّث تودوروف عن فعل القراءة ويلاحظ أنه بالرغم من كونه فعلاً متكرراً وشائعاً في الممارسات الإنسانية، إلا أنه من النادر ما تم التفكير به أو تطوير تصوّر فكري عنه. يقترح تودوروف أسئلة تشكل قواعد انطلاق في عملية التفكير في فعل القراءة، من ذلك: كيف يمكن لنص من النصوص أن يقودنا إلى عالم متخيل؟
يعتقد صاحب "الأدب في خطر"، أنه لكي نستطيع قراءة نص يتوجّب علينا بناء عالم متخيل ولهذا السبب تتعدد القراءات لذات النص، لأننا في الحقيقة نقرأ "الجمل"، لكننا بالمحصلة نفهم "النص".
يراوح تودوروف بين التنظير والتطبيق العملي، ومن ذلك مقاله حول "المحتمل" والذي يذهب فيه إلى دراسة الرواية البوليسية، ويمتد به التفكير إلى مشاغل كثيرة في الحياة. بحسب صاحب "أجناس الخطاب"، تُبنى الراوية البوليسية على فكرة الاحتمالات في الكشف عن الجاني، وتقود القارئ من لغز إلى آخر، وهي تضطرّه إلى أن يعيد بناء الكل انطلاقاً من بعض الأجزاء المعزولة، ليصل أخيراً ليس إلى الحقيقة، فهو ليس المحقّق، بل إلى الاستمتاع بالتجوال في شكبة الاحتمالات.
يرى تودوروف أن ذلك جزء من لعبة الحياة، يقول "عبثاً نحاول أن نكتشف قوانين الحياة التي تحيط بنا، وكذلك ليس باستطاعتنا أن نغيّرها، وبذلك فإن الخضوع للاحتمال هو ما نلجأ إليه أحياناً، وهكذا دواليك حتى نلاحظ أن حياتنا تخضع ليس لقوانين الحقيقة، بل لقوانين الاحتمالات، تماماً كما في الرواية البوليسية".
من اللافت أن تودوروف في كتابه هذا يستعين بـ"ألف ليلة وليلة"، وذلك من أجل سجال المدرسة التكلاسيكية في تحليل الأدب، والتي كان أتباعها يرون أن الشخصيات الأدبية والأفعال يمكن ان تدرس كوحدة، فلا معنى للأفعال بلا شخصيات تجسّدها، ولا معنى لشخصيات لا تفعل شيئاً.
يرى تودوروف أن "ألف ليلة وليلة" عمل يتوفّر على شخصيات لا يمكن اختزالها في أفعال، حيث تكون كل شخصية بمفردها حكاية جديدة كلياً، ويؤدي ظهور شخصية جديدة إلى انقطاع القصة السابقة، لتبدأ أخرى في شرح الشخصية الجديدة. وكل قصة تخلق جديداً في داخلها، لكي تستطيع شخصياتها أن تعيش، إضافة لكونها تخلق جديداً في القصة الكبرى "ألف ليلة وليلة".