في نهاية القرن العشرين، وخصوصاً مع انتصار الرأسمالية بعد صراع طويل مع المعسكر الاشتراكي، ساد اعتقاد أن تلك المآسي التي صاحبت القرن، من حروب مدمّرة ومجازر ونزاعات، إنما هي صفحة يطويها التاريخ بشكل نهائي، غير أن بداية القرن الجديد قد أتت عكس تلك التوقّعات، إذ كان له أيضاً حروبه ومجازره ونزاعاته.
من بين المظاهر السلبية التي عرفها القرن العشرون، واستمرت خلال هذا القرن، تلك الأفواج البشرية التي تغادر أوطانها بحثاً عن الأمن في أماكن أخرى، فإذا كان تهجير الفلسطيينين من أرضهم واحتلالها أو مجازر رواندا والبلقان في بداية التسعينيات أخطر ما بقي في ذاكرة القرن المنقضي، فإن مغادرة السوريّين لبلادهم خلال القرن الحالي لم تخل من نفس المشاهد، ناهيك عن تدمير بيوتهم وكلّ أمل لهم في عودة قريبة.
"قرن من اللجوء.. أن نصوّر المنفى"، عنوان كتاب مصوّر صدر مؤخّراً عن "منشورات سوي" الفرنسية، وفيه جمَع المؤرّخ برونو كابانيس (1967) صوراً لرحلات حزينة كان يشقّ فيها اللاجئون الحدود من بلد إلى آخر باتجاه منفى لا يعلمون في الغالب مصيرهم فيه.
يُرفق كابانيس الصور بتعليقات تضيء تلك النزاعات التي كان هؤلاء ضحيّتها، وهو المعروف بتخصّصه في تاريخ الحرب العالمية الأولى، والتي جعل منها منطلقه في هذا الكتاب، فهي بالنسبة إليه ورغم أنها بدأت بعد 14 سنة من بداية القرن الماضي، إلا أنها تمثّل عنوانه والبداية الفعلية لظهور ملامحه الدموية.
يركّز الكتاب على أعمال مصوّرين جعلوا من الكوارث الإنسانية هاجساً أساسياً في مسيرتهم الفوتوغرافية مثل روبير كابا ومارغريت بورك وايت، موضحاً أن "أسطورة الفوتوغرافيا" في القرن العشرين تمحورت حول تصوير مآسي الناس، ونقل شحنة الألم إلى أماكن بعيدة، وخصوصاً إلى الغرب حيث تخرج دائماً قرارات الحروب التي تنتج لاحقاً موجات من الهجرات.
يمكن اعتبار الكتاب نوعاً من التأريخ لمسألة مفلتة عادة من صياغات المؤرّخين، فاللجوء لا يتركّز في مكان بل هو حدث سائل، مفلت باستمرار، كما أنه حدث لا يترك أثراً بعد أن يمرّ، وبذلك فإن عدسات المصوّرين تتحوّل إلى ذاكرة أولى يمكن للمؤرّخ أن يستند إليها لبناء صورة عمّا حصل. يؤكّد كابانيس أنه لا يبتغي أن يقدّم تاريخاً تقنياً يعدّد من خلاله مآسي التهجير التي عرفتها البشرية في غضون قرن، وإنما يريد أن يعيد رسم ملامح عصر يجد نفسه يكرّر مأساته بشكل منتظم، وفي هذا الإطار يدرس مسألة استعمال الفوتوغرافيا كوثيقة تاريخية من جهة، ووسيلة ذات جدوى في القضايا الإنسانية الكبرى من جهة أخرى.
يناقش المؤلف أيضاً تقبّل "الجمهور"، الأوروبي خصوصاً، لمعارض مصوّرين جمعوا مادة حول موجات اللجوء، مؤكداً أن السمة الرئيسية لهذا التقبل هو "التعاطف المؤقّت"، فمع هذا الشعور تظل هناك قطيعة بين الجمهور والذهاب نحو حلول جذرية. في أوروبا، دائماً ما يسود شعور بأن المأساة تقع في مكان آخر من العالم.