منذ سنوات، وبفضل ظهور الموسوعات المفتوحة، وأشهرها موقع ويكيبيديا، بات من اليسير الوصول إلى المعلومات الأساسية عن شخصية تاريخية ما، وهي مهمّة لا يتصدّى لها المؤرخون بشكل حصري، بل مستعملون عاديون للإنترنت، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة حول كيفية تعريف شخصية عامة، وما ينبغي إيراده وما يمكن إسقاطه من معلومات، وكيف يجري إعادة بناء حياة امتدّت لعقود في سطور قليلة.
هذه الأسئلة التي أصبحت متداولة بشكل كبير في عصر الموسوعات المفتوحة، هي في الأصل قضايا جنس مخصوص من الكتابة هو السيرة الغيرية، أو ما يُعرف في اللغات الأوروبية بالبيوغرافيا، وهو شكل من الكتابة ذو حدود مرنة تقع بين التاريخ والرواية، وبالتالي بين متطلّبات التوثيق وما يقتضيه البناء السردي من تخييل.
في ثقافتنا العربية، بقي هذا الجنس مهمّشاً إلى حد كبير، فلم يتنشّط سوى عبر العودة إلى الشخصيات التاريخية، خصوصاً حول العصور الإسلامية الأولى، ومن ذلك أعمال محمود عبّاس العقاد، فيما بقيت شخصيات العصور الحديثة نادرة الظهور.
حيال ذلك، كانت الترجمة وسيلة لملء فراغات المكتبة العربية في هذا المضمار، ومن حسن الحظ أن إحدى أكثر السير الغيرية شهرة في العالم الحديث قد وصلت إلى العربية من دون أن تتخلّى عن فتنتها السردية أو الأسلوبية، ونعني ثلاثية المؤرخ البولندي البريطاني إسحاق دويتشر حول الزعيم الروسي ليون تروتسكي (1879 - 1940)، والتي نقلها إلى العربية كميل قيصر داغر، وقد حملت أجزاؤها عناوين: "النبي المسلح" و"النبي الأعزل" و"النبي المنبوذ". ثلاثية صدرت مؤخراً طبعتها الثانية عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، وكانت قد ظهرت بالعربية أوّل مرة عن الدار نفسها سنة 1982.
لا تزال الثلاثية إلى يومنا مرجعاً، ليس فقط عند البحث عن تفاصيل في حياة تروتسكي أو المرحلة التي عاصرها، بل أيضاً في أسلوب كتابتها، حيث اشتغل دويتشر على بناء الشخصية التاريخية وكأنه يشتغل على شخصية أدبية، فاهتمّ بمشاعرها وأفكارها وانفعالاتها، ورسم علاقتها مع محيطها بعناية وتفاعلات هذه العناصر مع بعضها. بعبارة مختصرة، جعل دوتشر من سيرة تروتسكي قطعة من الحياة.
في المقابل، طاولت المؤلف تُهم التمجيد، خصوصاً بسبب اختيار مفردة "النبي" لتوصيف تروتسكي، ولا يخفى هنا أن هذه التهم أتت في سياق مخصوص، فحين صدرت الثلاثية بين 1954 و1963 كانت الحرب الباردة في أوجها. بسبب هذا العمى الأيديولوجي، لم يتفطّن المنتقدون إلى أن سيرة تروتكسي إنما هي إدانة للمنظومة الشيوعية وضيق صدرها بفكر يخالف الرؤية الستالينية، فقد كان تروتسكي يؤمن بـ"الثورة المستمرة"، أي أن ما تحقّق في روسيا لم يكن خلاص العمّال، كما تروّج لذلك رؤوس النظام البلشفي.
ونحن نقرأ سيرته، لنا أن ننقل أشياء من تروتسكي إلى واقعنا العربي بثوراته الأخيرة التي أفضت إلى ارتدادات جمّة. لعلّها مثال حي على أن العمل الثوري المؤقت لا يطرح إلا طرقاً لا تفضي إلى أي مكان، وأن الثورة لا يمكن اختزالها في هبّة شعبية لأيام ثم انتظار تحقق المطالب جميعها.