من بين غايات شعرية عدة انكب عليها نص "أصيد طائر كوليريدج" لـ أحمد م. أحمد (منشورات المتوسط)، يهيمن ألم البقاء حياً دوناً عن الآخرين على القصائد، يقودنا الشاعر إليها من العنوان الذي يستعيد به ملّاح كوليريدج؛ فيعيد إحياء قصيدة الشاعر الإنكليزي الرومانسي "صقيع البحار القديم" (كتبت عام 1798).
بالنسبة إلى الشاعر السوري فإن البقاء حياً في الحرب وبعدها يعادل أن تعيش في منزلة الميت، يكتب "لا تجزعوا، تلك التي تتدحرج على وجناتكم، هي دموع أمّهاتكم. لا تجزعوا، تلك الأجنحة اللامرئيّة التي تصفقُ وجوهكم، أرواحُ أبنائكم. لا يخيفنّكم السّواد، ثمّة شجرٌ ذكيّ كثير يخبّئ أخضرَه في صلواتكم (...) لا تجزعوا، في البلادِ كثيرٌ من الأكفانِ والنّعوش، وما يكفي من حيطانٍ لأوراق النَّعِيّ، وعزاء قليل التكاليف. لا تجزعوا، إنهم موتاكم يهلّلون لأصدقاء حديثين سيشغلون بعضاً من مقاعدهم الفاغرة. وأنتم، أيضاً، هللوا: أنا باقٍ، باقٍ، حتى أُتوِّجَ حفيدي".
الشاعر باق، تماماً كما بقي بحّار كوليردج؛ فبعد أن تتيه سفينته في البحر وتصل به إلى الجليد، يأتي طائر القطرس ويدلّه إلى طريق الخروج، وما إن تنجو السفينة حتى يقوم البحّار بقتله، ليقود ذلك إلى رحلة تراجيدية، تنتهي بظهور شبح امرأة تلعب النرد على أرواح البحّارة، وتحكم على قاتل القطرس فقط بأن يظلّ على قيد الحياة، أما البحّارة كلهم "فما كان أجملهم/ راقدون أموات/ وألف وألف شيء لزج ما زال حياً"(من قصيدة كوليريدج).
في صيد طائر كوليردج يصيد الشاعر نفسه ويلف جثتها حول عنقه لكن هذه الجثة لن تطفو به لن تكون طوق نجاة حتى وإن استنجد بسورية؛ "أتعلّقُ بحبالِ صوتك، سورية. أنا الغريق". أو حين يقول "وجهي الكانَ سوريّاً جنازةٌ ـ صفقةٌ سريعةٌ لميتٍ لم يتّسع له الوقتُ لكي يغتبطَ بذبالةِ آخرِ الليلِ في زيجةِ العدم. أُشَيِّعُني، وكلانا ـ الميتُ، والميتُ" أو "أنا الذي رأى حتى عَمِيَ. أنا القرد السوري الكثير، الشاهد الخصيّ. أنا سيزيف السوري يبصقه الجذامُ الكونيّ، السوري الغارق في الهباء".
ليس كوليريدج وحده من يحضر في نص أحمد، فالعمل غني بالشخصيات ومقولاتها ومشاهدها، سنجد سلفادور دالي، وابن عربي، ومارلون براندو، وآل باتشينو، وفوكنر، والمتنبي وإرثاً بصرياً وشعرياً كبيراً، فنحن أيضاً نقرأ لمترجم تتعدد مصادره لتلتقي في هذا النص.
"أنا في نعشي الثالث، ومن نعش محيي الدين ابن عربي يطلّ مارلون براندو، ويقرأ في خطبة الجمعة الشهيرة على أسماعنا، أن العالم بعدَه سيمتلئ بالأقفال والمزاليج، وسيخلو من الأبواب والأيدي. وينهي الخطبة بلعن أولئك الذين دهنوا حيطانهم بالأصفر، وأولئك الذين لم يدهنوها".
ورغم أن قاموس أحمد غني بالصور التي تخصه وحده، والمفردات التي نقرأها في قصائد لأول مرة؛ لكن هناك سطوة لكلمة موت ومشتقاتها (ترد في النص قرابة أربعين مرة)، وجنازة، وكفن، وقتل، ونعش، هذا في غياب كامل لمفردات الحب والشفقة، رغم أن المرأة والجسد والرغبة ليسوا غائبين تماماً عن النصوص.
يكتب أحمد جنّازا طويلا لموتى ماتوا، وآخرين لم يموتوا بعد، يكتب أيضاً سيرة القتل والقسوة "كنّا السابلةَ، حَمَلَةَ الزنازين الملوّنة، الرؤوسَ المتشابهةَ على المدرَّجات، المنذورين للريحِ كي تكتملَ الأسطورةُ بموتنا ثم خَلْقِنا لوباء أصفر جديد، لرذاذ الحروب".
في "أصيد طائر كوليريدج" طبقات من الشعر؛ الظلام يسقط فيها، ثمة من خرجوا طالبين النجاة في البحر وهناك تخلّوا عن أرواحهم، يتكلم الشاعر بأصواتهم ويتحرّك بين اليابسة والماء، بحثاً عمن نجهل أسماءهم: "طفل الداخلِ السوريّ، الذي يرتدي طوقَ النّجاةِ، إنما يتوقُ للموجِ، ويتدرّبُ الآن على الغرَقِ الأكيد"، ويكتب أيضاً "نزرّرُ قمصاننا، ونتأهّبُ لموتٍ أنيقٍ، تحت نيرانٍ صديقة".
هذه التعددية داخل النص بين الأحياء والأموات، واليابسة والبحر، والشاعر والآخرين؛ تشكل متاهة قرائية يعززها أحمد بعبارة "هذا نص واحد متقطع" تحت عنوان العمل، أي أنه يقول لقارئه سواء أقرأت النص بشكل عمودي من أوله إلى آخره أو أفقي وأخذت كل قطعة وحدها، فهذه كتلة واحدة من الشعر، الكل فيها متشابهون والكل فيها أعداء وشركاء وأصدقاء والكل وحيد؛ حتى الشاعر نفسه مقسوم على اثنين "حذّرتُكَ يا شبيهي، بألا تلقي بنفسك إلى الخارج. الخارج محفوفٌ بجلود الأرواح اليابسة"، ويقول في موضع آخر من النص " ستسمع نشيج صديقكَ المغفَّلِ وهو يبحث في هاتفه المحمول عمّن يهاتفه"، ويكتب "لم أرَ قطُّ أحلى من الندوبِ. الندوبُ عائلتي".
تتحرك نصوص أحمد في حياة كأنها مقبرة كبيرة لسفينة حطمتها خطيئة القتل، مدينة غارقة، مملكة سقطت في يد أعدائها وقتل كل من فيها، عائلة احترقت ونجا منها شخص واحد؛ ولا أمل "أسير تحت شعريَ الأشيب/ وقد ابتلعني ظلِّيَ. أمامي يربضُ وحشان: نفادُ الأوكسجين، واليومُ التالي".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بطاقة
شاعر ومترجم سوري (مواليد 1965)، تخرّج من كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق. عاش سنوات في الولايات المتحدة قبل أن يعود للاستقرار في طرطوس حيث يعكف على عمله في الترجمة. صدر له: "جمجمة الوقت" (قصص، 1993)، و"أحرق سفنه إلا نعشاً" (نصوص، 2014). من بين ترجماته: "العالم لا ينتهي"، (2010) و"ذلك الشيء الصغير وسيّد التبديات" (2015) لتشارلز سيميك، و"مقدسات ومحرمات وحروب"، لمارفن هاريس (2017).