شكّلت بغداد مدينة كوزموبوليتية خلال القرن التاسع الميلادي كواحدة من أكبر حواضر العالم التي تفاعلت فيها مؤثّرات عديدة عربية وفارسية وبيزنطية وهندية وصينية، تركت بصمتها في مجالات عديدة، من أبرزها الطبخ الذي تطوّرت تقاليده وتوسّعت أصنافه وعكس نمط الرفاهية لدى النخب آنذاك.
يعيد الباحثون ظهور مؤلّفات الطهي إلى المطبخ العباسي حيث يُنسب إلى أبي اسحق إبراهيم بن المهدي، شقيق هارون الرشيد، تأليفه أول كتاب في هذا المجال حمل عنوان "كتاب الطبيخ"، وتتالت بعدها الكتب التي وضعها العديد من العلماء منهم ابن سيار الوراق والرازي وابن ماسويه وعلي بن يحيى المنجم، لتشهد ازدهار أكبر في العهدين الأندلسي والعثماني.
"النكهات والطيب: كتاب الطبخ السوري" عنوان النسخة الإنكيلزية التي صدرت حديثاً عن "منشورات جامعة نيويورك"، بترجمة تشارلز بيري وتقديم كلوديا رودن، للكتاب الأصلي "الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب"، مجهول المؤلّف، الذي يعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي.
على دأب عناوين عديدة مماثلة، اهتمّ الكتاب بأنواع عديدة من الأطعمة، متوسّعاً في الحديث عن التوابل التي اشتهر بها العرب وزيّنت موائدهم، مثل جوزة الطيب والورد والقرنفل والزعفران والعديد من البهارات والأعشاب التي يحمل كلّ صنف منها استعماله الخاص، إلى جانب العطور والبخور والزيوت الطبية والمساحيق المضادة للتعرق وغيرها من المستحضرات التي تشير إلى تطوّر الصناعات الغذائية والدوائية والتجيملية في تلك المرحلة.
يوضّح بيري أن الكتاب تمّ نسخه يدوياً في عدّة مخطوطات كانت تُملى على الورّاقين، حيث يوجد العديد منها متفرّقة في مدن بلاد الشام والعراق، تُنسب إلى مؤلّفين كثر، إذ يرد في إحدى المخطوطات أنَّ اسم كاتبها هو المؤرّخ الحلبي المعروف ابن العديم، وهناك مخطوطة أخرى محفوظة في الموصل تحمل اسم الجزَّار.
وينبّه أيضاً أن هذه المخطوطات التي راجت في التراث العربي كان يضعها الطبّاخون الذين يعتبرون أصحاب ذائقة رفيعة يتمّ المصادقة عليها والإقرار بها من قبل السلاطين والولاة الذي كان ينظّمون أيضاً مسابقات خاصة في الطبخ، يتنافس فيها صفوة الطهاة.
تتعدّد الوصفات التي يتضمّنها الكتاب، واستعير بعضها من ثقافات أخرى مع تحسينها، خاصةً في ما يتعلّق بالحلويات، التي يعتقد المحقّق أن معظمها لا يزال يعدّ من أعقد الأطباق وأكثرها قدرة على المنافسة حتى اليوم.