مع اكتشاف جوهان لودفيغ بركهارت مدينة البتراء في جنوب الأردن، عام 1812، بدأت الدراسات حول حضارة الأنباط التي امتدّت بين سيناء والأردن، شمال شبه الجزيرة العربية. من بين هذه الدراسات ما وُضع حول لغة الأنباط، التي عُدّت وثيقةَ الصلة بالآرامية، التي تعود جذورها إلى اللغة الكنعانية، وهي تتشابه مع الحرف العربي، إذ تُكتب هذه اللغات من اليمين إلى اليسار، بحروف منفصلة، لكنّها لا تخضع لقواعد الإعراب."الطوبونيميا النبطيَّة: دراسة في أسماء المواقع الجغرافيَّة في ضوء المصادر التاريخيَّة ومخطوطات البحر الميِّت" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للباحثين الأردنيّين زياد مهدي السلامين، وإخلاص خالد القنانوة، ويُعنى بتفسير اسم المكان وبيان دلالاته اللغوية.
يستعير المؤلّفان عنوان كتابهما من اللفظة اليونانية "طوبونيميا"، بمعنى "اسم مكان"، وهو فرع من فروع علم دراسة الأسماء (الأونوماستيكس) عموماً، ويختصّ بتتبّع أصول وجذور واشتقاقات وأشكال الصيَغ المختلفة لأسماء المواضع الجغرافية، في محاولة لفهم سياقات التسمية المختلفة؛ اللغوية والتاريخية والدينية.
ويعدّ الكتاب دراسة لغوية تاريخية لأسماء المواضع الجغرافية الواردة في الكتابات النبطيّة (النقوش والبرديّات)، بالإضافة إلى الأسماء المنسوبة إلى مواضع جغرافية، والواردة أيضاً في الشواهد الكتابية النبطيّة، والأسماء الجغرافية وأسماء الشعوب والقبائل التي وُسمت بالنبطيّة، أو اتّصلت بالأنباط بصورة أو بأخرى، في المصادر والكتابات التاريخية الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية).
تقول إخلاص القنانوة، في حديثها إلى "العربي الجديد" إنّ "أهمية هذا النوع من الدراسات تكمن في محاولتها التعمّق في فهم الأصول اللغوية لأسماء الأماكن ودلالتها؛ فأسماء الأماكن تتّسم بالمحافظة، أي أنّها تحتفظ بصيغها في أغلب الأحيان، كما أنّ مثل هذه الدراسات يُساهم في رفد المادة المعجمية للغةٍ أو لهجة بعينها (ونحن نتحدّث هنا عن إحدى اللهجات الآرامية) بمادّةٍ قد لا تكون قد صُنِّفت قبل الآن". وتُوضح أنّ "التوسع في المقارنات اللغوية لتشتمل على لغات ولهجات في سياق جغرافي أوسع، يعني فهماً أعمق وأشمل للسياقات الحضارية للمكان".
يسعى الكتاب إلى فهم أعمق وأشمل للسياقات الحضارية للمكان
تشير المؤلّفة المشاركة إلى أنّه "تمّ تصنيف فئتين أساسيّتين لأسماء الأماكن؛ الأولى تشمل الأسماء المذكورة بصورة مباشرة، مثل رقمو (الاسم النبطي لبترا) والحجر (مدائن صالح) وأيلة (العقبة) وغيرها؛ أما الثانية، فعُنيت بالأسماء المنسوبة إلى أسماء أماكن مثل تيما وعمَّان وعين جدي (على الساحل الغربي للبحر الميت) ومصر وسواها".
وتضيف أنّ الكِتاب "يعتني بالبحث في المصادر التاريخية الكلاسيكية عن الأسماء الجغرافية وأسماء الشعوب والقبائل التي وُسمت بالنبطيّة، أو اتصلت بالأنباط بصورة أو بأخرى". وهناك عدد من المواضع المذكورة في الكتابات النبطيّة التي لم تُحدَّد هويتها للآن، فعمد الباحثان إلى الاتِّكاء على المسوحات الأثرية التي تشير إلى شكل من أشكال السكنى النبطية فيها، بالإضافة إلى الشبه لفظاً ودلالةً للموضع من الاسم الوارد في النقوش النبطيّة في تحديد هوية بعض الأماكن في هذه الدراسة.
وتلفت أستاذة اللغات السامية الشمالية الغربية الآرامية والكنعانية، إلى أنّ "الدراسة أظهرت أهميّة الالتفات إلى الدراسات اللغويَّة الساميَّة المقارنة ضمن الإطار الحضاري اللغوي الأوسع، ومن هنا برزت أهمية الاتّكاء على المادة اللغوية لمخطوطات البحر الميت، وهي من الدراسات القليلة باللغة العربية التي استعانت بهذه المخطوطات بغية المقارنة اللغوية وتتبّع تطوّر الصيَغ، كما أظهرت أهمية البحث في المصادر الكلاسيكية (لا سيما اليونانية) للنظر في المنهج (بمزاياه ومثالبه) الذي استخدمه الكتَّاب الكلاسيكيون في تناول هذا الجزء من العالم، وربّما يمهّد الكتاب الطريق لباحثين آخرين للنظر في أسماء المواضع في كتابات ساميّة أخرى متّبعين المنهج البحثي نفسه".
يتألّف الكتاب من مقدِّمة وثلاثة فصول، خُصِّص الفصل الأوَّل منه لمناقشة أسماء المواقع الجغرافيَّة الواردة في النقوش والبرديَّات النبطيَّة، ورُتِّبت الأسماء كلُّها ترتيباً أبجديّاً، ودُرس كل اسم منها، على حدة، دراسةً لغويَّة وجغرافيَّة، مع إيراد لمحة تاريخيَّة عن أهمّيّة كلّ موقع من هذه المواقع موضوع الحديث، اعتماداً على ما ذُكر عنها في المصادر التاريخيَّة من ناحية، وما كشفت عنه المسوحات والتنقيبات الأثريَّة من ناحية أخرى. وتطرّق الفصل الثاني لدراسة وتحليل الأسماء المنسوبة إلى مواقع جغرافيّة، في حين اشتمل الفصل الثالث على دراسة لأسماء المواقع النبطيّة الواردة في المصادر التاريخيَّة القديمة.