لا يخفى على أحد مدى ارتباط اللغة بقدرة المجتمعات على تشييد معرفة جادّة تحمل هويتها، وعدم تركها في ظلّ لغات أُخرى عُمِلَ على تكريسها لأسباب سياسية وثقافية. وفي بلد مثل لبنان الذي لعب دوراً كبيراً في نهضة الفكر واللغة العربية منذ مطالع عصر النهضة في القرن التاسع عشر، تبدو التحدّيات اليوم جمّة، حيثُ تتمثّل في خلق جدلية حقيقية بين العربية كلغة، والمعرفة، بحُكم سياسات التنوّع اللغوي التي يعيشها العالم وتنعكس على المناشط التعليمية والثقافية في هذا البلد.
"العربية والمعرفة: قراءات في حاضر اللغة ومستقبلها" عنوان الكتاب الصادر مؤخّراً عن "دار المشرق" في بيروت، من تحرير: علاء الجبالي، مدير "مركز اللغات" في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، ورنا سبليني، المُحاضِرة في المعهد ذاته، وقد ضمّ عشرة أبحاث مختارَة ومحكّمة لمجموعة من الأكاديميين والمختصّين في اللغة العربية، وتعالج هذه الأبحاث مسألة العقبات التي تواجه الإنتاج المعرفي بالعربية حتّى يستوفي شروط الجودة العالمية.
يتناول الكتاب قضايا عدّة، الترجمة والأدوار المنوطة بها هي الأبرز بينها، فالوعي اللغوي الذي يتحرّك بين نمطين معرفيّين هو جزء أساسي من صيغة العطف التي قُدّمت في العنوان. وإلى جانب الترجمة تحضر مسائل أُخرى مثل: المصطلح اللساني، وترتيب المعجم، والاختبارات المعيارية التي يكاد العالَم العربي يُعاني من أزمة في اعتماد إطار موحَّد بين بلدانه رغم ما يُقدّم من تصوّرات وحلول شتّى في هذا السياق.
كما يتطرّق الكتاب في عدد من أبحاثه إلى هموم عامّة، مثل المناهج التقليدية التي يقوم عليها التعليم المدرسي، حيثُ لا يتمّ التعامل مع اللغة بوصفها أداةً حيوية إنّما مجرّد قوالب جامدة، وهذا يُنفّر الدارس، كما يتناول مسألة غياب التكامُل بين المدرسة والبيت والمجتمع، إذ تختلف اللغة باختلاف هذه البيئات. وأفضل طريقة يقترحها الكِتاب لترميم نقاط الضعف المذكورة هي إجراء الاختبارات التشخيصية لطلبة الجامعات لسبر قدرتهم على استخدام العربية في السياقات المعرفية.
الجدير بالذكر أنّ "دار المشرق" التي صدر عنها الكِتاب يعود تأسيسها إلى عام 1848 على يد الآباء اليسوعيّين، وقدّمت خلال تاريخها الممتدّ إلى اليوم عدداً من أهمّ المطبوعات المعجمية، والإسهامات المعرفية التي ترمي إلى تطوير وتعزيز اللغة العربية.