"المفتش" وقرن من الجريمة: حين تجتمع الأخبار المتفرقة في كتاب

25 يناير 2022
رسمة مصاحبة لأخبار المحاكم في صحيفة "لو بيان بوبليك"، سبتمبر 2021
+ الخط -

ما فتئ عالَمُ الجَريمة يَشدّ المُتابعين ويُثير لدَيهم تساؤلاتٍ حول تشكّل الانحراف في باطن النفس البشرية، ثم ترجمته في أعمال عنفٍ، بعضُها يبعث على الدهشة بما فيه من حِبكةٍ وإتقانٍ، حتى صارت "الجريمة المثاليّة" عنوانًا على الحذق في الاعتداء دون ترك آثارٍ. وقد تعوّدت الصّحافة أن تخصّص قسمًا لهذا النوع من الأخبار، ومنها من تمحَّضَ كليًّا لها. ومن أشهر الجرائد المُختصّة "ديدكتيف" (المُفتّش) الفرنسيّة، التي لا تنشر سوى أخبار الجَرائم والقضايا.

وقد جمعت الصّحافيّة الفرنسيّة ورئيسة تحرير جريدة "المُفتّش الجديد" جولي ريغوليه أهمّ القضايا الخطيرة في كتابٍ، صدَر مؤخراً بباريس عن "دار تيليماك" بتصديرٍ من  بيار أنتيلوج. يحمل هذا المجموع عنوان: "قرن من الأخبار المُتفرّقة"، ضمّت فيه أهم الجرائم التي هزّت المجتمع الفرنسي وشَغَلت الرأيَ العام طيلة القَرن الماضي.

كما أدمجت ريغوليه أكثرَ من ستمائة صورة لأبرز وجوه الجريمة بفرنسا ومَسارحها ومُرتكبيها، وأضافت إليها نصوصًا فلسفيّة وأدبيّة لكبار الكتاب والأدباء المعاصرين، مثل جان بول سارتر وأندريه جيد وفرانسوا مورياك، الذين تحدّثوا عن هذا الجنس من السّرد، الواقع بين حافتَيْ التوثيق القضائيّ والتخيّل، ونظّروا لِوظائفه النفسيّة والاجتماعيّة. كما أوردت العديدَ من قُصاصات الجرائد لصور كِبار المنحرفين، الذين لطالما أقضّوا مَضاجع الجمهور. 

هناك سحرٌ تحمله أخبار القتل ما يفسّر الإقبال عليها

وهكذا، يمثّل الكتاب سَفَرًا في أرجاء الجريمَة واسترجاعًا لأبرز القضايا التي تعكس ما في المجتمع الفرنسي من تحركاتٍ وتوتّرات واضطراباتٍ، لأنّ الجريمة، في منظور علم الاجتماع، ترجمة لما في النسيج المجتمعي من تحوّلات وانحرافات، قد يقترفها الجُناة رفضًا للقيم السّائدة. 

وقد اقتبست الصحافيّةُ موادّ كتابها من أشهر التحقيقات التي مَلأت أعمدة "المُفتّش الجديد". فهي صحيفة فرنسيّة أنشأها الأخَوَان روجيه وجوزيف كاسل سنة 1928، باسم "المفتش"، وتولّت دار غاليمار نَشرها وتوزيعَها، ثم انتقلت ملكيّتها وإدارتها بين عدة أشخاص ومؤسسات، وصارت عام 1982 تحمل اسم المُفتّش الجديد". وقد تَخصّصت مُذّاك في نَقل الأحداث المتفرّقة أو "المتفرّقات"، أي هذا الصنف من الأخبار التي لا يمكن تصنيفها في أقسام الصحافة المَعهودة، كالسّياسة والثقافة والاقتصاد... 

ويضمّ هذا الكتاب، تبعًا لترتيب زمنيّ، أبرزَ الحوادث والجرائم التي كسرت قاعده الانتظام داخلَ القيم الاجتماعية السائدة في الذهنيّة الفرنسيّة، منذ الحرب الكونيّة إلى يوم الناس هذا. وتشمل فصوله أخبارَ الاعتداءات التي مَسّت بشكل عنيفٍ الحيوية الاجتماعيّة التي تميّز النّسيجَ اليومي للمُدن والأرياف، بفضل سردٍ مشوّقٍ يسعى إلى خلق خطيّة معقولة لتعاقب الأحداث واكتشاف حقيقة الجناة. 

وقد أطلق الأخَوَان كاسل على الصّحيفة اسم "المُفتش" لأنّ الصحافيين الذين يُحرّرونَ موادّها باتوا بمثابة المُحقّقين الذين يشاركون في كشف الملابسات، بطرق سرّيّة وملتوية، تُكمل مسارَ البحث أحيانًا وتساعد مُحققي الشرطة الرسميين على الوصول إلى الحقيقة. وفي أحايين أخرى، قد تُعارضها وتفنّد نتائجَها حين يَشتَمّ هؤلاء "المفتّشون" غير الرسميين أنَّ القضيّة تأخذ - لدوافعَ سياسيّة أو طبقيّة - منحًى مشبوهًا. 

حوادث متفرّقة تُلهي الوعي عن قضايا المجتمع الرئيسة

هذا وقد أخِذ على هذه الصنف من الأخبار، في السنوات الأولى لصدور هذه الصحيفة، كما في أيّامنا هذه، تضخيمها الجرائم وحتى تَجميل طريقة إعدادها واقترافها، ولا سيما عمليات السّطو الأسطورية على البنوك أو الاحتيال على الأثرياء، إلى درجة أنّ بعضَ القرّاء صاروا يتعاطفونَ مع المجرمين. وقد أجاب مُؤسسا الجريدة حينها أنَّ الجريمَةَ واقعٌ ثابتٌ، والأحرى الحديث عنه لحماية المجتمع منها عوض إخفائه ومُواراة تبعاته، وهذا من قَبيل النفاق. 

كما عيب على هذا الجنس استخدام أسلوب الإثارة في التحرير وتَجييش المشاعر وعدم التزام البُرود الوصفي وهُدوء التحليل اللازمَيْن لكشف الحقيقة والوُصول إلى الجُناة الفعليين، وسطَ كومة من الأدلّة والأدلة المُضادة والذرائع، علاوة على أنّ هذه الجريدة غالبًا ما تنشر صورًا صادمة لضحايا الاعتداءات ولمَسارح الجَريمة. 

تبرّر ريغوليه هذا الصنفَ من السّرديات بأنه يؤدّي وظيفَةَ طمأنة وتَهدئة، فعندما يقرأ الواحد منّا هذه الأخبار، يَشعر بأنّ ما حصل من اعتداءاتٍ لا يُمكن أن يطاوله، وأنه لا يَحدث إلا من قِبَل الآخرين ضدَّ الآخَرين. كما تؤكّد أنها أنجزت هذا العَمَلَ لترويَ قصّة المؤسسينَ الأوائل، ومن وراءها، تروي قصّة المجتمع الفرنسيّ الذي تَطوّرت داخلَه وسائل المُجرمين وخططهم. ولكنّ قِصصهم ما تزال تسحر المتابعين على اختلاف الأعمار والانتماءات الاجتماعيّة. 

المفتش

وفي المقابل، انتَقَدَ عالِم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هذا الجنس الأدبيّ بمقولة شهيرةٍ، صاغها على شكل جناسٍ، فذهبت مثلاً Le fait divers fait diversion (تُلهي الحوادث المتفرّقة الوعي) عن الاهتمام بالقضايا الرئيسة في المجتمع، بل إنَّ تأثيرها يشبه الأفيون الذي يسرح بالخيال ويسقطه في وَهم أنَّ ما حَدَث من فظاعات لا يأتيه إلاّ الغير، ما يبرّئ الذات ويزيد في تَضخيمها.  

وعندما نجيلُ النّظر في واقع "المتفرّقات" طيّ الصّحافة العربية، نلاحظ أنها غير متخلفة في هذا المضمار. فَسائِر صُحفنا باتت تخصّص، ومنذ عقودٍ، صفحاتٍ كاملة لقضايا المجتمع، وتفعل الشيء ذاته في مواقعها الالكترونية، وغالبًا ما تحظى هذه الصفحات بنسبِ قراءةٍ عالية بسببٍ من هذا "السِّحر" الذي تحمله هذه الأخبار والغرابة التي تنطوي عليها. فهل يلجأ إليها القارئ العربي هروبًا من واقعه الأليم؟ أم أنّه يتماهى مع الضّحية وأهلها، ومع الجَاني في مثل قضايا الشّرف والسطو على الأغنياء، لما في ذلك من قيم "الفتوّة"؟ أم أنها مجرد فسحة في عالم الانحراف والشذوذ الذي قد تَميل إليه النفس البشرية إذا أقررنا مع الفيلسوف توماس هوبز بأنّ الشَرَّ هو جَوهر بني الإنسان. في هذا الإطار، قال رولان بارت: "يهدفُ هذا الأدبُ الجَمعيّ إلى المُحافظة، داخلَ المجتمع المعاصر، على الغموض العقلي واللاعَقلي، القابل للإدراك وما لا يُدرك، ويقدّم للفرد علاماتٍ ومضمونًا، كله غير مؤكّد، وهو ما يَنزع عنه المسؤولية ويُهديه ثقافةً تَملؤه مع أن مَعناها يظل صامتًا". 

وأما اللغة التي كُتبت بها موادّ هذا الكتاب الواقع في 380 صفحة، فهي واضحة ومشوّقة، صاغتها ألمع الأقلام الأدبيّة والصحافيّة بفرنسا، وعَضَدَتها مجموعة من الصور والوَثائق والتحليلات ما يجعل من القراءة سَفرًا ممتعًا في تحول القيم وتطوّر وسائل الإجرام. 

هذا، وتعرف أصداء المحاكم اليومَ انتشارًا واسعًا، حيث استولت عليها قنوات التلفزيون وأنتجت منها أجمل الأفلام والمسلسلات، ولا يزال الناس يتابعونها بشغف لأنها تهب الإحساس بعدم الهَشاشة، وأنَّ المُجرم، أي الآخر، بَعيد عن الذات، مختلف عنها، بحيث إنَّ الذات هي التي تُراقِبه. وهذا أيضاً من سِحر البَيان الذي يحوّر حتّى وقائع الانحراف. 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون