"تواريخ الميديا" لـ جاك أتالي: على أمل مجاراة الطوفان

06 ابريل 2021
تجهيز عملاق للفنان الهندي أنيش كابور في شيكاغو (Getty)
+ الخط -

"لا يمكن أن نقول الحقيقة على شاشة التلفزيون. هناك كثير من الناس يتفرّجون"؛ بهذه العبارة التي التقطها من أحد سكيتشات الفنان الكوميدي كولوش، يصدّر المفكّر الفرنسي جاك أتالي (1943) كتابه الأخير "تواريخ الميديا: من إشارات الدخان إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وما بعد" (منشورات فايار، فبراير/ شباط 2021)، ولعلّه لم يجد في مدوّنة المفكّرين والمؤرّخين عبارة كهذه تفي بالفكرة الأساسية لمشروعه الموسوعي، وتمثّل مدخلاً يوصل القارئ بسرعة إلى أعمق إشكاليات تاريخ الميديا؛ فهو تاريخ الحقيقة وغيابِها في آن.

فإذا كان دور الميديا المعلن والمعروف هو الكشف والإظهار، فهي أيضاً تُخفي وتحجب، بل تفعل الأمرين النقيضين بشكل متزامن أغلب الوقت. تتصدّى لإضاءة بعض الظواهر فتعتّم على أخرى، وتتولّى دور التوعية فإذا بها تتحوّل أيضا إلى أداة تعمية. وتظهر كفضاء للحريات فيتبيّن أنّها أيضاً وسيلة مراقبة. وإذا نظرنا إلى تاريخ الميديا من هذه الازدواجية سنفهم لماذا اختار أتالي صيغة الجمع في العنوان. 

لا تقتصر دلالة مفردة الميديا على وسائل الإعلام، إنّها كلّ ناقل للمعرفة والأفكار والحالات الشعورية والميولات. وبهذا المعنى، فمع الجريدة والراديو والتلفزيون والإنترنت، تشمل مفردة الميديا الكثير من الأشياء معاً، معظمها متداخل لكن ينبغي التفريق بينها، فالصوتيات اللغوية من الميديا وكذلك الكتابة، والكتابُ، والنص، والورق، ومنظومات الإشارات وغير ذلك.

هذا التنوّع في دلالات الميديا يجعل من التأريخ لها أمراً في غاية التشعّب، بل إنّ المؤلف يشير إلى أنّ تاريخ الميديا أوسع من تاريخ العالم، فحين يضع مؤرّخ نصب عينيه كتابة تاريخ العالم فما عليه سوى الوقوف على ما استقرّ بأنّه حقائق تاريخية ويربط بينها. أما الناهض بمشروع كتابة تاريخ الميديا فلا يمكنه أن يُغفل المغالطات والإشاعات والأكاذيب، وكثيراً مما ينبغي على المؤرخين أن يُسقطوه.

تاريخ الميديا أوسع من تاريخ العالم لأنه يحتوي التضليل

ربما، علينا أن ننتبه إلى أنّ من وضع على عاتقه كتابة "تواريخ الميديا" ليس مؤرّخاً، أي ذلك الذي يهتم بالماضي، بل هو على الطرف النقيض بمعنى من المعاني على سلّم التصنيفات المعرفية؛ فقد عُرف جاك أتالي أساساً كعالم مستقبليات، ورغم أنّه يتصدّى إلى تاريخٍ، بل إلى تواريخ، فهو يحافظ على حسّه المستقبلي، وبذلك فإنّ الكتاب يقوم على ازدواجية لافتة حين يجمع بين عودة للتاريخ وبين التقاطات تعود بنا من قرون بعيدة إلى اليوم ومن ثمّ تصنع امتدادات في الزمن.

من ذلك أنّه حين يدرس سرعة انتقال المعلومات بين الأزمنة يتناولها من زاوية قدرتها على ربط شخص ما بما لا يمكن له أن يدركه مباشرة بحواسه، فكانت الرسالة المكتوبة تتيح بناء صورة ذهنية عن حدث وقع في مكان آخر، ثم أتت الجريدة فأضافت للنص الصورة المرسومة ثم الفوتوغرافية، وأخيراً بات من الممكن مع النقل التلفزيوني المباشر أو الهواتف المحمولة أن نحيط بما يحدث في أبعد نقطة عنا من الكرة الأرضية. لكنّ أتالي لا يقف هنا، فيظهر حسّه المستقبليّ حين يشير إلى أن تطوّر التكنولوجيا يمكن أن يمدّنا بأكثر من الصورة الذهنية أو الحسّية، كأن يتيح لنا أن نشعر بما يشعر به شخص آخر في مكان بعيد، وهو زمن يطلق عليه أتالي اسماً بشكل استباقي "عصر ما بعد المعلومة" وفيه يمكن - بمعنى من المعاني - أن "نعيش حياة الآخرين".

إلى جانب الانتقال بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، ينتقل الكتاب أيضاً بين مجموعة من الحقول الاجتماعية المختلفة، أهمها الحقل الصحافي وقد أحاطه بحقول السياسة والفن والأكاديميا، وبالتالي تحضر في كلّ تاريخ من تواريخ الميديا إضاءات ضرورية عما نقصيه عادة من دلالات الميديا، بل إنّنا يمكن أن نخرج من قراءة الكتاب بتاريخ عن الموسيقى، وتاريخ آخر عن الطبّ وآخر للدين، كما نتقاطع مع تاريخ الممارسات الديمقراطية وغيرها. 

يمكن تفسير التفاوت الحضاري من منظور تداول المعلومات

تاريخ الميديا بهذا المعنى يتميّز بكونه من الممكن أن يصبّ فيه كلّ شيء لأنّ كلّ شيء مادة للميديا، ولا ينسى المؤلف ها هنا أن يتناول بالحديث مثلاًَ الجائحة العالمية، وكأنّه يودّ أن يبث في كتابه شيئاً من الراهنية، وليس أسهل من ذلك نظراً لمرونة موضوعه. 

يتعامل أتالي مع هذه المرونة بشكل واعٍ، فهو يجزم أنّ كتابه كان يمكنه لأيّ سبب كان أن يتطرّق لمواضيع أخرى، كما يمكن أن يُسقط بعض الفصول منه ويأتي بأخرى من دون أن يتغيّر شيء من فكرته ومن دون تحوير في العنوان. ومن أطرف ما يذكر أتالي أنّ القارئ العجول يمكنه أن يمرّ سريعاً على عناوين الفصول وسيخرج بأهم الأفكار، أما الأكثر صبراً من هذا النوع من القرّاء فيمكنه أن يقرأ بضع صفحات من كلّ فصل ففيها سيجد حكايات قد تكون غير مترابطة لكنّها تفضي إلى بناء ظاهرة الميديا في ذهنه، وفي الأخير يدعو أيّ قارئ إلى "التمتع" بكلّ ما يرد في الكتاب قياساً على متعة المؤلف نفسه في إنجاز عمله.

لكنّ تاريخ الميديا ليس مجرّد حكايات ينظمها مفهوم جامع؛ إنّه بعبارة أتالي "مساحة يُلعب فيها مصير البشرية برمتّها". مثلاً، يمكن تفسير التفاوت الحضاري في كلّ الأزمنة بقدرات كلّ أمّة على السيطرة على فضاء المعلومات، بل إنّ مفهوم الحضارة نفسه يمكن أن نقاربه من منطلق المعلومات، فما يجمع بين أفراد يعتقدون بأنّهم مشتركون في حضارة واحدة هو احتكاكهم الدائم بمجموعة من المعلومات التي تحدّد هوّيته ومصيرهم المشترك.

بالنسبة لأتالي، فإنّ المجتمعات المتخلّفة من منظور تداول المعلومة هي المجتمعات التي لا يصل فيها الجزء الأكبر من الناس إلى فضاءات تداول المعلومة. هؤلاء ورغم انتمائهم إلى جماعة لا يمكن أن تكون لهم مساهمة في البناء الحضاري الشامل. 

تاريخ الميديا

يمكننا - كقرّاء عرب - أن نفارق كتاب أتالي قليلاً فنفحص صفحة من تاريخنا، وسنرى أنّ الغزو الغربي لمنطقتنا في القرن التاسع عشر قد وجد شرائح اجتماعية واسعة في البلاد العربية لا تندرج في فضاء المعلومات، وبالتالي، فهي تعيش في الهامش الحضاري. يفسّر هذ المنظور اختلال التوازن بين الشرق والغرب، ولعلّ الكثير من البلاد العربية لم تخرج بعد من أخطاء تهميش شرائح من مجتمعاتها بسبب خواء سياسات التعليم والتنمية والثقافة.

سننتبه ونحن نضرب هذا المثال إلى أنّ أتالي لم يحضر في تاريخه للميديا كلّ العالم. الأمر معروف لدى الكتّاب الغربيين، فتاريخ الغرب هو تاريخ العالم لدى أغلبهم. لكنّ المفكّر الفرنسي اجتهد في إثبات العكس، من دون نجاح يذكر، فكان يستحضر ما هو غير أوروبي في مقارباته لكن بشكل متحفيّ، فلا أثر للأمم غير الأوروبية إلاّ في سياقات الحديث عن تطوّر صناعات الكتابة القديمة من الفينيقيين إلى السومريين، وهي ملامسات سطحية لعلّ تحاشيها كان يعطي كتابه مزيداً من التماسك، وما ضرّ لو اعترف المؤلفون بأنّهم يتناولون فقط ثقافات يعرفونها بحق. 

ربما أتى حرص أتالي على استحضار أكبر عدد من "المعلومات" في كتابه إلى محاكاة تاريخ الميديا، فهو أيضاً تاريخ الغريب والشاذ والناتئ وغير المتوقّع. فما لم يشعر كلّ قارئ - حتى الفرنسي الذي من المفترض أنّه القارئ الأكثر توقعاً - أنّه يصطدم بأشكال من الميديا لم تخطر بباله مما أنتجته الثقافات الأخرى، لن يصل إلى الفكرة الجوهرية لكتاب أتالي، وهي أنّ تاريخ الميديا أصبح ذا بنية طوفانية تدعونا إلى بناء أنظمة تسيير وضبط لها. الأمر أشبه بتحدٍّ جديد للإنسانية يشبه تحدّيات عصور بعيدة مع عناصر الطبيعة من جبال وأنهار وبحار.

المساهمون