هل هي "خطّة لإنقاذ العالم" ما تبسطه هذه الرواية التي لا تتجاوز حجم راحة يد مقارنة بعوالم الروايات التي تبلغ صفحاتها الآلاف عدداً أحياناً؟ أم هي خطّة للسخرية من العالم، عالم عراق اليوم الذي يبدو شاسعاً، منظوراً إليه بعيني طفل يخفي وراء سذاجته حكمة كاتب مقامات مُحْدِث؟
ليس فن مقامات بديع الزمان الهمذاني (969-1007) وحده هو ما ذكرتني به هذه الرواية الصادرة (دار الرافدين، 2020) وكاتبها حسن أكرم، بل ذكرتني بأقاصيص الكوميديا البشرية للفرنسي أونوريه دي بلزاك (1799-1850) أيضاً، ولكن على مقاس أصغر. شخصياتها لا تبلغ المئات، ولكنها تلتقط أقل ما يمكن من الشخصيات الدالة بذكاء على ما يمكن أن أسميها مقامة عراقية في حبّة جوز.
يبرز ملمحُ الشكل الجديد في بنيتها منذ اللحظة الأولى. هي مقطوعات، أو مقامات، متتالية، تتقاطع أحياناً، ولكن لا الزمن فيها يتسلسل، ولا المكان يستقر. هي قبل كل شيء رواية مشاهد كما يراها أو يتذكرها طفل، يبدو ماكراً بحذق ومهارة، ملتقطة من الحياة في عراق اليوم والأمس القريب الذي كان ما إن ينتهي من حرب حتى يُلقى في أُخرى، وآخرها الغزو الأميركي، غزو من يسمّيهم الراوي ساخراً على لسان زميله أحمد دعبلة "أشرف من الشرف". على أن الحروب بدبابتها وجنودها لا تظهر إلا على هيئة ظلال خلفية مهيمنة، ولا تتضح في مقدمة الصورة، وهي تظهر بخطوط رسام قليل العناية بالألوان الزيتية، إلا شخصيات هي على التوالي، شخصية معلّم المدرسة ميران صديق الدجاجات، وعم الراوي المتوفى الذي يتصل به من العالم الآخر، وجدّه الذي حاول عبثاً إنقاذ العالم، وجدّته التي قالت له "إن أردت أن تنقذ العالم عليك أولاً أن تحاذر على نقودك من التلف"، وجاء هذا القول "الحكيم" بمناسبة سرده لسيرة جدّه الذي انتهت محاولته وحياته مع ضياع كل ما ادخر من نقود، فاستحقت مقولتها أن تتصدّر مقطوعات الرواية.
يبرز ملمحُ الشكل الجديد في بنيتها منذ اللحظة الأولى
شخصية هذا الجد هزلية، فهو بدأ عمله عطّاراً، ثم تقرّب من الحزب الحاكم بعد الانقلاب، وحصل على امتيازات كثيرة، وحين حدثت الانتفاضة خشي أن يُحسب على الحزب فانضم إلى المنتفضين، وعاد إلى الحزب بعد أن فشلت الانتفاضة، واستعاد مكانته الطبيعية. ومع الدخول في حرب جديدة حلّ الحصار وخسر تجارته، وجاءت النهاية هكذا: "خشي على نقوده من السرقة وقت الحصار، وقرر دفنها في الحديقة، ولكنه نسي تغليفها بأكياس بلاستيكية، فتغلغلت إليها المياه الجوفية وحولتها إلى عجينة من ورق، فلم يستطع تحمّل هذا وسقط ميتاً قرب القاصة" (القاصة هي خزانة حديدية لحفظ النقود).
ولكن شخصية المعلّم ميران هي الهزلية بامتياز بكل ما تعنيه الكلمة، وتكاد حكايته مع الدجاج أن تكون أبلغ تعبير عن مجمل هذه المقامة العراقية. يقدم الراوي هذه الشخصية بداية بالسطور التالية: "المعلّم ميران لم يتغيّر مع دخول الشرفاء إلى المدينة، ما زال يحتفظ بمعلوماته الغريبة عن العالم. تقول أُمي عنه إنه مجنون.. أمي تصحّح لي ما يمليه علينا ميران. من ضمن الأفكار الغريبة أن السيارة كائن حيّ يتغذى على الزيت والبنزين، وأن الدجاجة تفهم في الفلسفة أكثر من البشر؛ إذ لم يحدث مرّة أن دخلت دجاجة واحدة على الأقل في أزمة اكتئاب".
هل كان وهو يكتب يفكّر برسومات ناجي العلي؟
ثم يعمق خطوط هذه الصورة باللونين الأبيض والأسود من دون استخدام الألوان على الإطلاق. فهذا المعلّم يفتح مشروعه الغريب لبيع الدجاج بعد التقاعد، والغرابة أنه يبيع الدجاج للتربية، ويشترط على المشتري أن يقسم بالله أنه لن يؤذي الدجاجة، وحظي بأصدقاء مثله يهمّهم أمر الدجاج ويؤمنون بفلسفته، وخطّطوا لإنشاء جمعية الرفق بالدجاج. وحين يظهر مرض إنفلونزا الطيور، وتنظم حملة لحرق الدجاج، يرفض ميران ترك الدجاج ليحرق، ويفضل أن يحترق مع دجاجاته، وأخبر الجميع أنه يموت مع الدجاج ليشعر بذلك حقاً بأنه كان دجاجة حقيقية.
ويُعتقل صديق الدجاج. ويذهب الراوي إلى السجن لأول مرة "ليشاهد كل الرجال الأقوياء وقد أصبحوا مثل الدجاج؛ يرمي لهم الشرطي الأكل من خلف القضبان خوفاً من أن تهرب إحدى الدجاجات". في هذه الزيارة يرسم ملامح إضافية للمعلّم ميران. ويسمعه يتمنّى حين حمل إليه كهدية صوراً لدجاجاته "أن يعيش كأنه دجاجة تجري في الحقل ولا تضطر للعمل.. تجري فحسب" لكنه لم يكن دجاجة، بل كان يعمل ككلب: "كنت دائماً ذلك الكلب الذي تمنى أن يكون دجاجة".
يقول الراوي: "قلت له أنت ديك يا أستاذ ولست دجاجة، فأجاب غاضباً، لم أكن ديكاً بل دجاجة، لكن لا أستطيع أن أبوح بهذا السر. عشت ستين عاماً على أني ديك وفي داخلي روح دجاجة".
وتأتي شخصية العم، وبذات الأسلوب المختصر المفيد، الخطوط الخالية من التلوين كأنما التلوين إذا دخل على الصورة أخرجها من عالم السخرية، بينما لا تتجلى السخرية على أكمل وجه إلا حين تُرسم الصورة باللونين الأسود والأبيض. هل كان الكاتب وهو يرسم هذه المقطوعات يفكّر بالرسوم الكاريكاتورية التي أبدعها ناجي العلي؟
لا أدري، ولكنني أجد تماثلاً بين أسلوبي هذين الفنانين ليس في منح الطيور التي يرسمان فضاءً فقط، بل وفي اختزال الملامح، وقول ما يبدو عجيباً بلا تفسير، تجسيداً لموقف "الحياد" الذي لا يقول فيه الممثل على خشبة المسرح مباشرة إنه حزين أو ناقم، بل يتخذ وضعاً دالّاً على هذا الشعور أو ذاك. هذا العم الشبيه بالخارج من دفتر رسوم كاريكاتيرية، يموت ثلاث مرات؛ المرة الأولى حين يصطدم وهو يقود سيارته بجذع شجرة، ثم وهو يقرّر الانتحار من مكانه في العالم الآخر، وأخيراً حين يطلق جندي من الذين هم "أشرف من الشرف" الرصاص على جهاز تسجيل كان الراوي يتواصل عن طريقه مع عمه المتوفى.
هذه الميتات الثلاث ليست كل غرائب هذه المقامة، إن كان لنا أن نسمّي مثل هذه "الوقائع" العراقية غرائب، بل هناك غرائب أخرى. يهرب الراوي ليلاً مع الدجاجة حين يقرّر أبوه وأمه ذبحها، في المقطوعة المعنونة "حان الوقت لإنقاذ العالم"، ومع جهاز التسجيل، وسيلته للاتصال بعمّه الذي هو في العالم الآخر، ومن دون أن يعرف وجهته، ولا تعرفها الدجاجة أيضاً. في طريق هربه ينقذه من هجوم صبية شخص اسمه أسد ولكنه يعيش في خرابة. وينصحه عمه ببيع الأخبار العاجلة للناس ليجمع مالاً سينقله إلى الجنوب. وينتهي به المطاف بالعودة إلى البيت والتضحية بالدجاجة والمشاركة في أكل لحمها، بعد أن وصلته رسالة التعزية التالية من العالم الآخر، ينقلها عمّه إليه من صديق الدجاج ميران: "يقول لك ميران لا تحزن لأجل الدجاجة، هو يعرف ما في قلبك، لكن دائماً ما تنتهي الأشياء للقتل، الأشياء كلّها تنتهي إلى الموت؛ أشخاصاً ودجاجاً ومواقف. فلم يكن ذنبك أو ذنب أحد. اترك الدجاجة تلاقي مصيرها وحدها. في النهاية كل واحد منا سيواجه مصيره وحيداً".
وتنتهي الرواية بأربعة هوامش، أولها يخبر عن نهاية حياة الدجاجة، وكيف أنها أنقذته وعائلته من الموت جوعاً، وأن الحرب انتهت في ذلك اليوم بعدها بأيام قليلة، إلا أن التأهب بدأ لحرب جديدة. وجاءت الخاتمة التالية في الهامش الأخير كمرثية حزينة شجية تبدو خالية من السخرية: "مع موت ميران وقرار عمي بالموت مرة أُخرى، وزينة التي تزوجت ورحلت، وعنّون الذي ترفّع عن يكون نِدّاً لي، والدجاجة التي خذلتها لمصيرها وأكلت لحمها فوق ذلك، أود أن أشير إلى أنني في كل مرّة أعيد فيها التفكير في هذا الشأن أصل إلى جواب واحد واضح لا يمكنني تجاوزه؛ إن هذا العالم تالف لا يمكن إنقاذه".