"ولابعت لمحمد مكتوب لابعت لمحمد مكتوب/ بالعجل رد الجوابا بالعجل رد الجوابا/ تحرم عليا الكحلي تحرم عليا الكحلي/ ما دام حبابي غيابا ما دام حبابي غيابا/ تحرم عليا الصفة تحرم عليا الصفة/ ما دام حبابي غيابا ما دام حبابي غيابا"، بهذه الكلمات تنادي المرأة حبيبها في انتظار إعلان زواجهما، بعدما حرّمت الكحل وتصفيف الشعر على نفسها، ما دام هو غائباً عنها.
يرد هذا المقطع ضمن أغنية "دابا يا قلبي دابا" الذي يحمل ألبومٌ غنائي عنوانها، وقد صدر حديثاً عن "جمعية نوى للثقافة والفنون" بالشراكة مع "جفرا للإنتاج الموسيقي"، ويشتمل على توثيق لثماني مقطوعات من التراث الشعبي الذي حفظته نساء بلدة دير البلح الفلسطينية (حوالى 15 كيلو متراً جنوب غزّة)، ونقلنه من جيل إلى جيل.
في مضمونها وموضوعها، تتشابه هذه المقطوعة مع أغانٍ تُردَّد في ليالي الحنّة في العديد من مناطق بلاد الشام ومصر، التي تودّع فيها العروس صديقاتها وجاراتها عند الانتقال إلى بيت زوجها، بحسب تقديم فريق البحث في المشروع الذي يُشير إلى أن المقطع الأخير منها ("خيل أجتنا الواد الواد/ خيل أجتنا عصرية") يُقال ترحيباً بالضيوف الذي يأتون لتقديم تهانيهم خلال الأعراس.
تعكس كلمات الألبوم جرأة في التعبير عن شوق المحبّبين
تعكس كلمات "دايا يا قلبي دابا" وسبع أغنيات أخرى يتضمّنها الألبوم، جرأةً في التعبير عن الشوق الذي يستبدّ بالمحبّين، ورغبتهم في الوصل واللقاء، كما تحمل تقديراً للعريس بما تطلقه من تحيّات اعتزاز برجولته وشجاعته وحفظه لكرامة أهله، ووعداً بأن تسانده عروسته وتعيش معه مهما تقلّبت تصاريف الزمان.
وتعدّ الأغنية التراثية سجلّاً حيّاً للعديد من الطقوس والعادات والتقاليد، وتحتوي في العديد منها ـــ كما يبرزه الألبوم ـــ على حِوارية تشير إلى الطابع الجماعي الذي تقدّم خلاله ما يسمّى "أغاني المردّدية"، حيث تؤديها امرأة وتعيد النساء من ورائها غناء لازمة أو بعض مقاطعها، بمرافقة آلات موسيقية مثل الطبلة والدفّ والناي واليرغول، أو من دونها، كذلك لا يغيب الرقص عنها أيضاً.
يشير بيان المشروع إلى أن الأغنيات الثماني تمثّل "مختارات من مناسبات أفراح الغزّيين في فلسطين، التي تعكس تراث وعادات وتقاليد دير البلح الساحلية على وجه الخصوص، بما يحمل إرثها التاريخي الغني من تنوّع ثقافي ومجتمعي تأثَّر بمحيطه الحضاري والجغرافي على مرّ الزمن".
وقد جُمِعَت الأغنيات ووُثِّقَت عبر توثيق روايات الجيل الأول من نساء البلدة (باتت تُعتبر مدينة اليوم) عام 2018، ثم سُجِّلَت في "استوديو جفرا – فلسطين"، بتمويل من "الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون" (SDC) و"مؤسسة دروسوس"، وضمّ فريق البحث والتوثيق كلّاً من أماني النجا، وروان أبو سلطان، ورولا أبو زايد، وعليان الفليت، وآية البحيصي، وأسماء منسي، وشريف ديب، وعلام صرصور، وهناء أبو زيدان، وعلاء بشير، ويوسف ديب، وعلي المصري، وزهير أبو لية.
ولا تخلو هذه المقطوعات التراثية من مفاخرة مجموعة من النساء بعائلاتهنّ، من خلال هجاء عائلات مجموعة أخرى في طابع يميل إلى السخرية، كما في أغنية "صف البراري"، حيث تقول نساء الحارة الشرقية: "وأنتن يا غربيات يا قعور الجرة/ وأنتن يا غربيات يا قعور الجرة"، فيأتي جواب نساء الحارة االغربية: "واحنا الغربيات ذهب في صرّة/ واحنا الغربيات ذهب في صرّة".
جُمعت الأغنيات بتسجيل روايات الجيل الأول من نساء البلدة
وتتخلّل أقوال الهجاء العديد من أشعار الغزل، ومنه: "وادحرجي يا بيضة لمّي البلح/ من يوم شفت البيضة قلبي انشرح/ وادحرجي يا سمرا نقّي الرطب/ من يوم شفت السمرا قلبي انعطب"، لينتهي مجلس التفاخر بحاراتهنّ إلى نشيد يوحّد انتماءهن إلى دير البلح، ويرد فيه: "واحنا الديراويات عال العالي/ يا خيولهن سابقة الخيالي يا خيولهن سابقة الخيالي/ واحنا الديراويات وما فينا الدنس وانطايح (نُنزل) الخيّال عن ظهر الفرس/ وانطايح الخيال ونقعد مطرحو...".
يُعاد توزيع أغنيات الألبوم بآلات كانت تُستخدم أحياناً في الماضي خلال الأعراس ومواسم الحصاد، ومنها العود بعزف فراس أغبر، والناي والبرغول والرقّ بأداء محمد خمايسة وعماد دار خليل وهاني أسعد على التوالي، مع إيقاعات سامر جرادات، ودمج آلات شرقية وغربية لم تكن متداولة سابقاً يعزف عليها كلّ من شارلي رشماوي (باص وغيتار) ويعقوب حمودة (قانون) وإيهاب هنية (بزق وساز)، إلى جانب غناء يمنى أبو هلال، وميرا أبو هلال، ونغم حدوي، وأمير جبارين، ومحمود عوض، ونادر حمودة، وعبادة جميدات.
ترتبط العديد من الكلمات الموثّقة بأحوال الطقس وتعاقُب الفصول، ومن هذه التراويد القديمة التي أُعيدَ توزيعها محافظةً على لحنها الشعبي، أغنيةٌ بعنوان "بركة الحمام" تصف تجمّع الأمطار في برك مائية تنمو على حوافها النباتات ويحوم حولها البطّ البرّي، حيث يرد في أحد مقاطعها: "بلون القمرة خدو الجميل يا ناس/ بلون القمرة ليلة يا بدري/ بلون منديلو خدو الجميل يا ناس/ بلون منديلو ليله يا بدري/ لاروح وأجيلو على عيون الناس/ لاروح وأجيلو ليلة يا بدري".
لا تتوقّف مضامين الأغاني عند حالات الوجد والولَه لدى العشّاق، فهي تتطرّق أيضاً إلى كراهية أحد الزوجين للآخر والرغبة في تركه، والبحث عن شريك جديد، مع تعداد جميع تلك الأسباب التي قادت إلى الجفاء والبُغض بينهما، حيث تُذكَر في أغنية "ما بريدو" بنوع من الفكاهة والهزل، كما يظهر في بعض أبياتها: "ما بريدو ما بريدو ما بريد/ غير أدورلي على ولفٍ جديد (أبحث عن حبيب جديد)/ ما بريد إلي جفا وأعطى قفاه/ يبلا بسكينة حفا وأنا أكون شديد.../ لبْست القبقاب وديق عالكعاب/ جوزها النصّاب ويبلا بالعمى".
جُمعت أغاني الألبوم من عدد من حافظات تراث دير البلح، وهنّ: كاملة أبو عيسى، التي رحلت قبل صدوره، وداليا أبو سلطان، وعبلة أبو عيسى، وزهوة أبو قاس، فرحانة أبو سمر، وسعدية أبو عبيد، وهانم أبو أسد، وغالية أبو قاسم، وعطاف بشير، وسراري أبو عيسى، وجليلة الفليت، وليلي الفليت، وآمال طرابيش، وفاتن بشير، ومريم أبو هدبة، ووداد نطط، وسهيلة أبو سمرة، وفرحانة أبو مصبح، وسعدية أبو قينص، وفريال أبو عيسى، وزهية أبو طواحينة، ويسرا بشير، وإنصاف أبو عيسى، وسهيلة أبو صفر، وصابرة صرصور.