يؤرّخ شهرام خوسرافي في مقالته البحثية "ما الذي نراه عندما ننظر إلى الجهة الأُخرى من الحدود؟" للمُمارسات الأوروبية المُعاصرة في صناعة الآخَروية، وبحسبه فإنّ كلمة "فيزا" تأتي من الكلمة اللاتينية videre والتي تعني "حتّى ترى"، وهي استمرار لما فُرِض على اليهود والمسلمين، ومَن استُعبدوا عبر التاريخ من أساليب وَصمٍ جاءت لتمييزهم ومراقبتهم وبالتالي ملاحقتهم، إذ إنّ الجسد ذو الخلفية العِرقية يجب أن يظلَّ حضورُه مرئياً.
ضمن هذا الإطار العام وفي السويد التي شهدت في التاريخ المعاصر مراجعات وتغييرات دورية، بمجملها إقصائية ومنغلقة، في سياسات التعامل مع الآخر، بالأخص المُلوَّن، نبتَت مبادرة أكاديمية مغايرة نظّمها أكاديمون/ات وفنّانون/ات ونشطاء تحت عنوان "دراسات الحدود النقدية"، لتُسائل الملاحظة الأولى حول معنى الحدود، من يرسمها ويعيد رسمها ومن يقطعُها. تنبّهت هذه المبادرة، منذ تشكّلها، إلى شبكة الأبعاد الزمنية والمكانية الأوسع، التي تقع في وسطها تجربة اللجوء/ التهجير، والتي يتم اختزالها واجتزاؤها من سياقها التاريخي لتغيبَ قصصٌ ومرويّات "الرحلة" عن مساحات إنتاج المعرفة، كما وأخذت على عاتقها إعادة مرْكَزَة هذه المرويّات في سياقات الإنتاج البحثي في حقل العلوم الإنسانية بما تشمله هذه المَركزة من سؤال كيف نحصل على المعرفة، وما الأُطر الأخلاقية والسياسية لإنتاجها ولماذا نكتب أو لا نكتب.
بداية آب، نظّمت هذه المباردة مدرسة بحثية صيفية تحمل نفس الاسم؛ لدراسة المُمارسات التاريخية والمعاصرة في التهجير القسري والترحيل. وجاء الإعلان عن المدرسة للمهتمّات/ين على شكل مانفستو يصلح بحدّ ذاته للدارسة، يحمل مجموعة من الافتراضات والأسئلة التي تؤسّس لرؤية هذه المدرسة النقدية، وتتلمّس ارتباطاً بين الحدود في شكلها الحالي في دول الشمال والمجتمعات غير المستقرّة في دول الجنوب، وتعرّف الحدود اليوم باعتبارها جزءاً من مشروع تراكمي استعماري ينطوي على أدواتِ التهجير والطرد، وسرقة الموارد والقوى العاملة والوقت.
وقد تم تصميم المدرسة، بحسب هذا المانفستو، لتسائل أيضاً منهجيّات وطُرق التعلُّم، وإنتاج وتبادُل المعرفة في الأُطر الأكاديمية، ولتقترح مساحاتٍ أكثر انفتاحاً للمشاركين تراعي - من ضمن ما تراعيه - توفير مساحة للـ"حضور"، والمساهمة الجماعية، تفكّك الضوابط الأكاديمية للتعلُّم والاكتشاف، وتنفتح على الهشاشة والرفض والتعبير عن الإحباط والتردّد وغيرها من ممارسات التفكير والتحليل والنقاش، والتي لا تستطيع أُطر التعليم التقليدية التعامل معها واحتضانها. ومن جانب آخر، تهدف لإنتاج أُطر نظرية تحرّرية تظلُّ متيقّظة ومقاوِمة لأنماطِ السيطرة المجتمعية والسياسية على اختلاف تقاطُعاتها.
لأدب المجتمعات الأصلية رواية مغايرة للمركزية الأوروبية
من خلف السطور يقرأ المتقدّم/ة عبر الإعلان خطوطاً أخلاقية وسياسية عامّة، يبدو أنّها نجحت في اجتذاب نوعٍ محدّد من الباحثين/ات والناشطين/ات ممّن تتجاوز اهتماماتُهم البحثية جدران "المؤسسة الأكاديمية" وترقى لتكون هموماً شخصية ودوافع للفعل المجتمعي و/ أو الجماعي. وبذلك انضم 24 باحثاً/ة من السويد، ومصر، وبريطانيا، والمغرب، وفنلندا، والهند، وأستراليا، وأفغانستان، وتركيا، وفلسطين، وإيطاليا، وسنغافورة إلى المدرسة وهم بغالبيتهم طلبة دكتوراة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية ومن حقول علم الإنسان، والجغرافيا، والدراسات الثقافية، والتاريخ، والعلوم السياسية، والاجتماعية، والتعليم، والقانون وحقوق الإنسان، فيما يعمل بعضُهم في مجالات النشر والصحافة والعمل التطوّعي مع اللاجئين. أمّا المنظّمون فُهم محاضرون/ات في مجالات علم الإنسان المجتمعي والأثنولوجي والدراسات الدولية وعلم الاجتماع في جامعتي: "استوكهولم" و"غوثنبرغ" في السويد.
عُقدت لقاءات المدرسة في جزيرة ناتارو القريبة من استوكهولم، بحيث أضاف المشهد الطبيعي في الجزيرة الخضراء التي يُحيطها بحر البلطيق، وبساطة أماكن المبيت، إلى مقولة المنظمين الهاربة مؤقّتاً من سلطة أماكن إنتاج المعرفة العنيفة بطبيعتها. ومن ذات الفلسفة تمّ تصميم تفاصيل الإقامة والمبيت والترتيبات اليومية، بحيث يُلهم الفعل اليومي المشترك من إعداد الطعام والتنظيف، أسئلة وخيالات تتجاوز ما يُطرح عادة على طاولات المؤتمرات الأكاديمية من أدائيات تتّسم بالبرود، إلى ما يمكن أن تنتجه الحميمية من تعمّق في الأسئلة الفردية - الجماعية وإتاحةً لأسئلة الجدوى، ومساحات آمنة لمشاركة تجارب الاضطهاد الخاصة، وتَشارُك بمقترحات القراءات ومشاريع البحث والفضول في خطواتها الأولى الصغيرة أو المتقدّمة.
من جانب آخر تم تصميم الزمن بحيث يشمل فسحاتٍ فردية لقراءة النصوص والاطّلاع على المصادر التعليمية المقترحة ضمن موضوعات المدرسة وهي: التاريخ، والجغرافيا، رُفات الدولة - الدولة بوصفها أثراً، والتصوّرات المستقبلية، وبالوقت الذي قدّم فيه المنظّمون نبذاتٍ مُقترحة لماهيّة هذه الموضوعات بعلاقتها مع الموضوعة الرئيسية وهي الحدود، قام المشاركون بتوسعة المخطّطات اليومية التي يتم فيها تناول كل موضوعة. وبذلك عملت كلّ مجموعة مصغّرة على اقتراح وسائط، وفحوى اللقاءات، والورش أو أشكال التعلُّم التي سيتم فيها مناقشة ودراسة كلّ موضوعة.
وقد جاء اليوم الأول تحت عنوان: "الجغرافيات"، وفيه أعطت المعمارية الباحثة مارغردا واكو وزميلها الباحث أرينجوي سين ورشة عمل حول سياسات رسم الخرائط، وما تنطوي عليه هذه العملية من ممارسات كولونيالة تنتج تصوّرات زائفة عن حركة وحياة الناس، وتُحيل العلاقات المركّبة إلى خُطوط حدودية ثنائية البُعد تختزل بشكلٍ عنيفٍ تَواريخ وقصص الناس، وعلاقتهم بالمكان وترسّخ المرويّات الاستعمارية الإحلالية. فيما ساهم المشاركون بدورهم بتقديم مقترحاتٍ بديلة تناقش وتتحدّى وأحيانا تُلغي مُعطى الخريطة كتمثيل لِما يُمكن أن تكون عليه الترسيمات والحدود المكانية.
في الجلسة الأخيرة من هذا اليوم ناقش المشاركون القراءات المُخصّصة بموضوعة الجغرافيا بالتركيز على مفهوم التحليل النقدي، وجغرافيات صيرورة المعرفة عبر عمليات الترجمة سواء من لُغة إلى أُخرى، أو نقل المعرفة الشفهية أو المحسوسة إلى أُخرى مكتوبة، وموضوعة مناقشة الجغرافيا عبر الشعر والأدب، وما يحمله أدب المجتمعات الأصلية من قصص عن تاريخ وجغرافيا المكان والعلاقة مع الأرض، وما يُمكن أن يعنيه الجسد باعتباره حدّاً.
رفضُ البحث الأكاديمي في سياقه الاستعماري موقف أخلاقي
كما جاءت القراءات المخصّصة لهذا اليوم لتتناولَ مواضيع منها: "مَرْكَزَة الجنوب في دراسات الهجرة"، و"جينيولوجيا المخيال الجغرافي في المركزية الأوروبية"، و"التمثيلات الرمزية للحدود والجدران في التاريخ المعاصر وعلاقتها بتجارب الوقت والانتظار والاقتلاع التي يمرّ فيها المُحتلون والمهجّرون". و"دراسة المحيطات كأرشيف للعبودية والاستعمار" عبر تحليل الوثائق التي تم إنتاجها تاريخياً لتنظيم المرور وحركة الناس والمواد عبر المحيط.
أمّا موضوعة اليوم الثاني فكانت "التاريخ/ صناعة القصص" (Hi/storis)، وذلك تحت إطار فهم التحديد "بوردرنغ" كأداة ترسم ما يُسمَح بمعرفته ومِن وجهة نظر مَن، وتحدّد القصص التي تأخذ مجراها لتكون ضمن "التاريخ"، ولتمحي وتهمِّش بشكلٍ قصدي طُرق النظر والتفكير الأُخرى. في ذلك اليوم بدأَ البرنامج بعرضِ فيلم للفنانة جاز مونيه يحمل اسم "لدينا قصص عن تلك الأماكن المُظلِمة الواقعة بين نقاط الضوء"، وهو فيلم ذو طابع فنّي يروي علاقة سكّان أستراليا الأصليّين بالطبيعة بما فيها المناطق المُظلِمة من السماء، ومعارفهم المتناقلة شفهياً والتي تقوم على الفهم العميق والعلاقة الوطيدة بالطبيعة.
فيما هدفت المرحلة الثانية من جلسات هذا اليوم إلى استدعاء حضورِ الجسد زمانياً ومكانياً بالتركيز على التواريخ الشخصية للمشاركين/ات، والتشابكات التي من المُمكن فحصُها عند النظر لقطعةٍ أو مادّة واحدة عبر عيون الآخرين، والنصوص المُمكن إنتاجها حول هذه الموادّ والصور في ضوء القراءات والعيون المتعدّدة. وذلك في إشارة لمُمكنات فهم التاريخ وكتابته بشكلٍ أكثر تعقيداً وغنىً لدى مروره بمناظير جماعية، في مقابل عمليات التسجيل التي تتجذّر فيها آليات المحو والإقصاء الناتجة إمّا عن علاقات القوّة، أو قصور الباحثين عن الإلمام بمختلف القصص والمرويّات عن ذات اللحظة. تَبِع هذه الجلسة الغنيّة وقفة مع "سؤال الصمت والتسكيت" بحيث أدارت إحدى المُشارِكات وهي باحثة وفنّانة أدائية جلسة حول معنى "الرفض" في العَمل البحثي.
فيما تناولت الجلسة النهائية نقاشاً لقراءات اليوم وبالأخصّ نص "كلمة ر: رفض البحث" لكلّ من إيف تك ووين يانغ، والتي جاءت لتناقشَ السياقات الاستعمارية التي يكون فيها رفضُ البحث الأكاديمي هو الموقف الأمثل أخلاقياً، وإمكانات الرفض من داخل عملية البحث نفسه عبر مقارنة مرويّات الألم؛ ألم المُستعمَر بمرويّات "الرغبة" باعتبار الأخيرة منتِجة ومقاوِمة وتحمل سمات الفطنة والأمل، ومساحات الفعل، وإنتاج خيال لِما بعد التجمّد الزمني المرافق للألم. في اليوم الثالث، تم التركيز على موضوعة "رفات الدولة/ الدولة بوصفها أثراً" أو ما يُصطلح عليه باللغة الإنكليزية Ruination، والتي تمّ فيها تناوُل الحُدود كآثار بائدة لأنظمة الدول القومية، بما يُمكن أن يعنيه هذا من إشغال لخيالات بديلة عن منظومة هذه الدول، وتحدٍّ لنموذج التنظيم البشري العابر للزمن الذي تفرضه الدولة القومية بطبيعتها.
وقد جاءت المُقترحات التعليمية في هذا اليوم لتحفّز حساسياتٍ وارتباكاتٍ تتعلّق بموقع الباحث/ة في مُجمل تجربة إنتاج المعرفة، ونقاشات مهمَّة حول المُسمّيات والتصنيفات المقترنة بالكتابة عن التهجير واللجوء، وضروة اقتراح أُطر وممارسات لغوية تنفي صفة المجهولية عن الأسباب التي تقتلع المُهجّرين/ات واللاجئات/ين من أماكنهم.
لاحقاً في هذا اليوم قدّمت الروائية والباحثة عدنية شبلي جلسة نقاش نقدية تناولت موضوع اختفاءات المعرفة في سياقات العنف متّكئةً بشكل مبدئيٍّ على دراستها المنشورة تحت عنوان: "حول سرقة الكتب والكلمات المسروقة" والتي تتناول فيها شبلي علاقة الإنسان بالكلمات والكتب في السياق الاستعماري، وما تتركه تجارب إخفاء المعرفة وسرقتها من تغريب للمستعمَر عن لغته وثقافته عبر ثيمات السرقة، والاستشراق، والصمت والعنف. واشتملت الجلسة على مناقشة لمساهمات المشاركين/ات المنوّعة بارتباطها بسؤال الاختفاء والتي تناولت مفاهيم مثل: التحوّل، والشيزوفرينيا، والمعرفة ما قبل العِلمية، والضيافة، وحماية الفردانية في إطار الجماعية، والجِيرة، والخروج عن الأرشيف، وغيرها. فيما جاءت الجلسة الأخيرة على شكلِ محاولةٍ للتعمّق أكثَر بهذه المفاهيم عبر استخدام وسائط معرفية منوّعة منها المشي، والنقاش، والفنون والتي شارك عبرها الحضور تصوّراتهم عن ما يمكن فهمه حول الحدود بمعناها الفعلي والرمزي.
أمّا اليوم الأخير من المدرسة فكان بعنوان "التصوّرات المستقبلية"، وشهد مشاركة خاصة من عالمة الجغرافيا والناشطة روث غلمور تناولت فيها سياسات الشارع وطُرق التفكير معه، ومفهوم "الجغرافيا التاريخية" وطرق التنظيم الجماعية الممكنة في وجه السلطة/ات مع أمثلة من مبادرات إنتاج في مناطق مختلفة من العالم، وانتباه لمؤقّتية هذه المحاولات وكيفية التعامل مع هذه المؤقّتيات. كما تناقشت المجموعة مع غلمور حول مُمكنات التعلّم والفعل في أُطر "نقدية" تتبع الدولة القومية مثل الجامعة مقابل الأُطر الأُخرى "الراديكالية"، وما يمكن الاستفادة منه عبر المساحات المنوّعة المتاحة.
جاءت المدرسة من حيث جوهرها لتُسائل طرق الأشكلة والبحث المتعلّقة بتجارب التهجير والنزوح، وتركت برغم أيّامها المعدودة أثراً عميقاً بالمشاركين/ات تمّت ترجمته عبر مبادراتهم المستمّرة في العمل البحثي المشترك والنشر وتبادل الفرص. وقد تفلّت المشتركون/ات بأطيافهم الهوياتية والمعرفية المنوّعة، ولو لأيام معدودة، من الحدود البيضاء للأكاديميا السويدية والأوروبية عموماً عندما خلقوا مساحة "تضامن" واعية بامتيازاتها ومسؤولياتها بذات الوقت.
* كاتبة من فلسطين