"سلطة التوريث".. نخب فرنسا وفشل الاستحقاق

21 سبتمبر 2021
(بول ياسكالي، تصوير: Carole Lozano)
+ الخط -

يحتلّ موضوع "النُّخب" والفئات الاجتماعيّة المتحكّمة في دواليب السّلطة مكانة هامّة في سلّم الظّواهر الاجتماعيّة المعاصرة بفرنسا، والتي لا ينفكّ فيها التفاوت الطبقي يعبّر عن نفسه من خلال الولاءات الحزبيّة والصراعات الفئوية، بالرغم من ورديّة الخطاب الرّسمي الذي يرفع شعارَ المساواة الاجتماعيّة والتقريب بين الطبقات. ومن ذلك قرار الرئيس إيمانويل ماكرون الإغلاق النهائي للمدرسة الوطنية للإدارة، الشهيرة باسمها المختصر ENA، والتي كانت، لعقودٍ طويلة، حُلمَ الطّلاب وأهمّ مَصدرٍ يتخرّج منه موظّفو الدولة، فهي التي أمدّت فرنسا بأكبر الكوادر والإطارات العليا التي تحكّمت في مفاصلها الإداريّة والسياسيّة. كما عادت هذه المسألة إلى الواجهة بعد تَصاعد الفضائح الأخلاقيّة والقانونيّة التي هزّت مؤسسة "معهد العلوم السياسيّة" بباريس عقبَ تورّط مديرها في جريمة نكراء. فقد تزامنت هذه الظواهر لتعيد إلى الضوء النظريّة "الاستحقاقية" Méritocratie والتي غدت شعارًا يدلّ على إمكان أيّ فردٍ من الشعب الفرنسيّ الالتحاق بهذه المدارس العليا والنجاح فيها والتمكن بعدها من دوائر الحُكم والاقتصاد والدبلوماسيّة، باعتبار أنَّ العمل هو المعيار الأوحد للنجاح.
ولكن لا تثبت هذه الدعوى أمام الوقائع والاستقصاء السوسيولوجي حيث قام الباحث الفرنسي بول باسكالي، وهو عالم اجتماع وباحث في المركز الوطني للأبحاث العلميّة، بنقد ظاهرة التفاوت الطبقي عبر دراسة معايير القَبول في هذه المدارس والشروط الرّسمية التي تضعهما المؤسّسة من أجل "غربلة" المترشحين المنحدرين من أوساط اجتماعيّة متفاوتة، وذك في كتابه الأخير بعنوان: Héritocratie وقد ترجمناه "بسلطة التوريث: النّخب والمدارس العليا وفشل الاستحقاق (1870-2020)، ويتعارض المصطلح مع سلطة الاستحقاق.

تتمثل الأطروحة المركزيّة، في هذا الكتاب النقدي، في القول إنَّ وراءَ شعار الاستحقاقيّة، الذي ترفعه هذه المدارس العُليا، بل وتتباهى به بوصفه تجسيدًا للعدالة الاجتماعيّة - التي يستند إليها ساسة اليمين واليسار على حدٍّ سواءٍ- وإتاحة الفُرصة للطلبة المنحدرين من كل الطبقات للتألق والنجاح، وراءها صراعاتٌ خفيّة تدور رحاها بين النُّخب الحاكمة وبقية الشّعب، ودائمًا ما انتَهت بفوز تلك النّخب وفرضِها مجموعة من "المعايير" والحواجز التي تمنع نَفاذ الأفراد من غير طبقاتها إلى سدّة الحُكم. فهي لا تسمح إلا بإعادة إنتاج نفس التراتبية الهرمية وبتكريس الامتيازات الموروثة التي تحظى بها تلك الفئات الحاكمة، مع تصميمها على توريثها لأبنائها وأهاليها، ولكن عبر غطاء خفيّ يدعم هذه الهيْمنَة ويرسّخها.

تمنع نَفاذ الأفراد من غير طبقاتها إلى سدّة الحُكم

وللبرهنة على هذه الأطروحة قَسم الباحث باسكالي كتابَه هذا إلى مُقدّمة وسبعة فصول، حاول فيها العودة إلى مفهوم "الاستحقاقية" ونسبيته ودلل من خلالها على أنّ التركيز على نبوغ أفرادٍ من الفئات الشعبية واحتلالهم مكانةً مرموقة في المجتمع الفرنسي ليس سوى وهم أو إيهام بالعدالة الاجتماعية التي سادت بعد ظهور النظام الجمهوري وانتفاء الطبقة البورجوازية وزوال ما كانت تحظى به من امتيازات. إلا أنها وعبر المعايير التي تضعها تجعل أبناءها يتوارثون أمورَ الإدارة والتصرّف بعد أن تتولّى، وبكل الوسائل التي ظاهرها قانوني-مؤسساتي، إقصاءَ كلّ متطلعٍ إلى التألق ممن لا ينتمي إليهم، وحصرهم في الوظائف التابعة والأعمال الهامشيّة، وكلّ ذلك دون أيّ إشارةٍ إلى الإقصاء أو التهميش، بل بالعكس عبر التظاهر بإدانته ومكافَحته.

وهكذا حاول الكتاب إعادة رسم النقاشات الماضية والاختيارات السياسية التي انتهجتها النّخب الحاكمة، وهي التي ضمنت استمراريّة صلاحية هذه المؤسسات في الاختيار والتمييز وفرض الشروط من أجل إقصاء الفئات المهمشة من الالتحاق بالمدارس العليا. فبفضل البحث الدقيق في تاريخ هذه المؤسسات، يردّ باسكالي على "الادعاءات" الباطلة التي ترفعها الدولة بالتركيز إما على "نجاح" بعض "أبنائها" من أبناء المهاجرين ونجاتهم من براثن الفَشل الدراسي وأخطار المُخدّرات والجرائم التي تشيع في الضواحي أو بالتركيز على "المنح الجامعيّة" التي تسندها وزارة التعليم العالي وفق مقاييس اجتماعيّة لمساعدة - كما تدعي في الخطاب الرسمي - الأوساط الفقيرة على ركوب "المصعد الاجتماعي"، الذي يظل معطلاً لفترات طويلة، حيث بيّنَ الكاتب أنّ جل هذه الادعاءات يسقط من خلال تمكن الطبقات العليا في سدة الحكم والحفاظ على امتيازاتها الموروثة ومنه جاء العنوان "سلطة التوريث".

غلاف الكتاب

إلا أنّ هذا الإقصاء، يؤكّد الكاتب، لا يُفسّر بنظريّة "المؤامرة" المنعقدة بين الطبقات، بل بسلسلة من الصّراعات تمكّنت النّخب المهيمنة من الفوز فيها عير تصديها المستمرّ إلى كلّ مشاريع الإصلاح والتغيير، وهو صمود تابعه الباحث منذُ حقبة "الجبهة الشعبية" وفترة المقاومة أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم حروب التحرير وتمرّد مايو 1968 حتى أيامنا هذه حيث يجري انتخاب الطلبة من خلال آلية Parcours sup التي يُحكم من خلالها على مستقبل التلاميذ وبها تقيّم ملفاتهم ومنها تستشفّ الأوساط التي ينحدرون منها.

طبعاً الغائب الحاضر الذي يباطن هذه المناقشات هو سكان الضواحي من أبناء المهاجرين العَرب والمسلمين الذين طالما تقدموا إلى هذه المدارس وأبعدوا عنها بعدَ معالجة ملفاتهم وفق الصّيغة القاتلة concours sur dossier أي: "مناظرة حَسب الملف"، ومجرّد وضع الاسم العربي أو الأفريقي وعنوان صاحبه القاطن، عمومًا، في ضواحي باريس كافيان لإقصاء المترشح.

لا تسمح إلا بإعادة إنتاج نفس التراتبية الهرمية الموروثة

ولا يسعنا هنا إلا التّساؤل عن وجود مثل هذه الآليات والمؤسّسات العليا في الوطن العربي، وبعد التحقق من وجودها ومطابقتها مع المعايير العالمية يكون من المشروع وصف الصراع فيها بين سلطة الاستحقاق وسلطة التوريث. ويمكننا على سبيل المثال أن نشير إلى بعض الجامعات اللبنانية التي يُعدّ الالتحاق بها من أعسر الأحلام، بالنظر إلى رسوم التسجيل الباهظة فيها، كما يمكن أن نَستذكر ما كان شائعًا في جامع الزيتونة، رغمَ ما يَحظى به هذا المَعلم من الاحترام، من احتكارٍ للتدريس فيه لدى الأسر "البلديّة" أو الأرستقراطية مثل آل بن عاشور وجعيط والنيفر، حتى إنهم كانوا يطلقونَ على القادمين من بعيد "الآفاقيين"، أي المنحدرين من الآفاق في غَمز من قناتهم. وهو ما يؤكد أنّ الظاهرة تكاد تكون كونيّة، تشيع في سائر المجتمعات وفي كل الأوقات، ولذلك لا بدّ من تسليط المِشرَط السوسولوجي عليها حتّى تُفضح هذه التلاعبات التي يورّث عبرها السّلفُ لأبنائهم امتيازاتِهم كما لو كانت حقّا طبيعيًّا.

بول باسكالي باحث في علم الاجتماع المعاصر، يشتغل ضمن المركز الوطنيّ للبحث العلمي بباريس، وقد تخصّص في الحراك الاجتماعي الصّاعد، أي السائر من أدنى السّلّم الاجتماعيّ إلى الأعلى، ضمن منطق صراع الأجيال والطبقات، كما يهتمّ بالمناهج المتّبعة في علم الاجتماع مثل البحث الميداني والتحقيقات والإحصاءات مؤكداً تاريخيّة هذه الوسائل العلميّة ضمن إبتستيمولوجية نقديّة. من أهم كتبه "تجاوز الحدود الاجتماعية (2011) و"مختبر العلوم الاجتماعية" (2018).


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون