يمثّل سؤال القراءة واحداً من الأسئلة الجوهرية، ليس في عالم النشر فحسب، بل في الحقل الثقافي بشكل عام. وإن كان النقاش حول الكتاب والكتب، وحول أسباب القراءة و"فوائدها"، لا يغيب أبداً عن التداول، فذلك لأنه يلامس جوهر الفعل والوجود الثقافي بشكل عام.
تبدو هذه الأهمّيّة التي تميّز القراءة بديهيةً إلى درجةٍ لا نتساءل معها ــ ربّما منذ وقت طويل ــ عن الأسباب التي تدفع كثيراً من الكتّاب والمثقّفين إلى تحبير صفحاتٍ ونشر كتبٍ يمتدحون فيها فعل القراءة، ويحدّثوننا فيها عن الكتب التي غيّرت حياتهم، وتلك التي يعتقدون أنّها يمكن أن تغيّر حياة قرّائهم المحتملين أيضاً.
واحدٌ من آخر هذه العناوين، ومن أبرزها في الفترة الأخيرة ربما، كتاب "لِمَ القراءة؟ 13 سبباً جيّداً (على الأقل)"، الصادر أخيراً بالفرنسية لدى منشورات "بروميار باراليل" في باريس، والذي يضمّ نصوصاً لثلاثة عشر كاتباً ومفكّراً وفنّاناً وباحثاً، من فرنسا وألمانيا بشكل أساسيّ، هم يورغن هابرماس، وآني أرنو، وهارتموت روزا، وإيفا إلّوز، وكليمُن زيتس، وجويل زاكس، وفريديريك جولي، وإستر كينسكي، ونيكولا مالر، وكاتيا بيتروفسكايا، وفيليب غارنييه، وسيبيل ليفيتشاروف.
رغم الاختلاف، الكبير أحياناً، بين الأشكال التي تتّخذها النصوص والزوايا التي يعالج منها الكتّابُ الموضوعَ ــ حيث نقف على نصوص شعرية وأخرى سردية وكذلك تحليلية فكرية ــ إلّا أنّ جميع المقالات المتضمّنة في الكتاب تحمل، في جزء منها على الأقل، طابعاً شخصياً، حيث يسرد المشارِك إمّا علاقته بالقراءة، أو دورها في حياته وتجربته.
في مشاركته، يعيد يورغن هابرماس أشْكَلَةَ السؤال عبر قلْبه، طارحاً، بدلاً من "لِمَ نقرأ؟"، سؤالَ "لِمَ لا نقرأ؟". يقدّم الفيلسوف الألماني تحليلاً للتغيّرات الثقافية والسياسية والاجتماعية والجمالية التي طرأت على فعل القراءة منذ الحداثة، ويقرأ هذه التغيّرات على ضوء العلاقة بالديمقراطية، قبل أن يقترح عدّة إجابات عن السؤال، من بينها: نقرأ "لنلتقط، ولو بشكل متقطّع، بعضاً من هذه الخبرات ما قبل اللغوية التي تؤسّس حياتنا". كما أننا نقرأ أعمالاً أدبية لأنّ الأدب، كما يكتب هابرماس، يعيد صياغة "الكونيّ في الفرديّ".
تتميّز أغلب مقالات الكتاب بالطرافة، البعيدة عن السطحية بكلّ الأحوال، ومنها ما يقصّه الكاتب الفرنسي فيليب غارنييه، المولود في عائلة ميسورة، والذي كان والداه يطلبان منه ألّا يُفرِط في القراءة، رغم تقديرهما لها. ذلك أنهما كانا يخافان من أن تُبعده عوالم الكتاب عن الواقع، وأن تؤثّر على مستقبله العمَلي.
وفيما تتحدّث الروائية الفرنسية آني أرنو عن القراءة باعتبار أنّها "تفرّق وتجْمع"، أي تغيّر في علاقة الفرد بمحيطه الاجتماعي، تقودنا الروائية الألمانية سيبيل ليفيتشاروف إلى مساحات أقلّ إلفةً بالنسبة إلينا عندما يتعلّق الأمر بسؤال كهذا؛ إذ تصف كيف توسّع القراءة بيئتنا الحيوية، بالمعنى البيولوجي للكلمة، وتتحدّث عن العلاقة بالكتاب كالعلاقة بالصيد، قبل أن تقرّظ القراءة كمُتعةٍ نكسبها "من دون أن نتعرّق"، كما قد تتطلّب أفعالٌ ممتعةٌ أخرى.
يُذكر أنه سبق لهذا الكتاب أن صدر في نسخة ألمانية مختلفة، لدى منشورات "زوركامب"، ضمّت نصوصاً لـ24 مشاركاً، من ألمانيا بشكل أساسي، قبل أن تتلقّف دار "بروميار باراليل" الفكرة وتضيف إلى بعض النصوص التي وضعها كتّاب ألمان في النسخة الأولى نصوصاً طلبت من كتّاب فرنسيين توقيعها حول السؤال نفسه: لِمَ القراءة؟ سؤالٌ غالباً ما تأتي الإجابة عنه من عالم آخر، ولا يمكن فصلُه عنه: الكتابة.