يُعدّ الاشتباك مع "اللحظة الريفية" من أهمّ لحظات الشعر الإيطالي الحديث، الذي نجده لدى كبار شعراء إيطاليا، كبافيزي وبازوليني ولوتزي وزانزوتو، وقد ترك هؤلاء إرثاً واضحاً بين شعراء إيطاليا المعاصرين، نجده حالياً لدى فرانكو أرمينيو (1960) ونيكولا غراتو (1975) وغيرهما الكثير.
وما زال تأمُّل الطبيعة يشكّل مصدرَ إلهام أساسياً للشاعر الإيطالي الذي غالباً ما تتخلّله لحظاتُ توتّر إنسانية قد تصنع تجارب شعرية أصيلة ومميّزة. لكن إلى جانبِ ذلك ثمّة تجارب شعرية جديدة قائمة على فكرةِ تحفيز التوتّر الداخلي لدى الشاعر، من خلال محاولة التماهي مع أحداث ساخنة أو مجاراة "الترند" السائد عالمياً، وهذا ما أدّى إلى صناعة شعر إيطالي ينهل من قاموس "القضايا الكبرى" المطروحة في نشرات الأخبار، بيد أنّه أتى على حساب الصدق في اللحظة الشعرية الفردية.
دافيدي روندوني (1964) في كتابه الأخير "ما الطبيعة؟ اسألوا الشعراء"، الصادر عن "منشورات فازي" (2021)، توقّف عند هذه الظاهرة لا سيما في الفصل المعنون "الشعر لا يتناغم مع الأيديولوجيا"، حيث تحدّث الناقد الإيطالي عمّن أطلق عليهم "كُتّاب وكاتبات شعر المينستريم"، ووصف "استعراضاتهم الشعرية" بالمُحزنة، وهم من الذين لا يعدمون مناسبة لاستلهام أيّ حدث تتناقله وسائل الإعلام، على غرار الأزمات البيئية، وانحسار الغابات، والهجرات، وحتى التسونامي.
روندوني، هو أيضاً من بين أبرز شعراء إيطاليا في الوقت الحالي، حاول تصوير الظاهرة التي تفجّرت في السنوات الأخيرة من خلال مشهد شعري ساخر مستلهم من إحدى روائع ألكسندر بوشكين:
"قصيدة الشاعرة ذات الشعر الأشعث/ تحاول استنطاق تسونامي/ وبينما تقومُ بتقليب الكلمات المستوحاة من مآسٍ بعيدة/... من منطقة البار تتناهى للسَّمع أصواتٌ لا رحمة فيها/ لأمزجة الكوكتيل وأنهار صغيرة لنبيذ باكاردي/ وقعقعة مكعّبات الثلج في الدَّلو الصغير/ لا تفلتُ الشاعرة من وطأة اللحظة/ فهي غارقةٌ في ورطتها/ المآسي غير القابلة للترجمة ستستحيل عاجلاً وليس آجلاً كلماتٍ مُفعمةً/ ستتنقل - مثل الصُّدَف الرهيبة - إلى إيماءات شديدة/ إلى هزّات غريبة/ إلى أصوات بعيدة أو مُباغِتة/ لدرجة أن تلك الأبيات ستجعل القلوب تعتملُ برعشات تقريباً لا يمكن الإحساس بها...".
"الموقف التأليهي" من الشعر ينمُّ عن عجز في فهم ماهيته
نصُّ روندوني هذا الذي يتقاطع مع قصيدةِ بوشكين "وليمة في زمن الطاعون"، يؤكّد من خلاله الشاعر أنّ وظيفة الأدب تكمنُ أساساً في استبطان جانب المُفارقة، وهو جانب أساسيٌّ في الطبيعة البشرية، ما نجدُه في نصوص شاعر إيطاليا الكبير ليوباردي. أمّا أن يطرح الشعر نفسه حلّاً ديالكتيكياً لمشاكل البشرية، ناهيكَ عن اعتباره علاجاً ودواءً وترياقاً وبلسماً كما يحلو للكثير من الشعراء وصفُه، فهو زعمٌ على حد تعبير روندوني مضحك بل ومثير للشفقة.
"الموقف التأليهي" من الشعر على حدّ تعبير المؤلّف كما هو من الطبيعة نفسها لدى البعض، ينمُّ عن عجز أصحابه عن فهم ماهية الشعر والطبيعة معاً، ذلك أنّ الغَرق في الأيديولوجيا حالَ دون فهمِ الكثير الصُّنعةَ الفنّيةَ، فالإعجاز لدى عظماء كشكسبير وموزرات وباخ يعتبر حالاتٍ خارقة ونادرة في تاريخ البشر، أمّا أغلبية الأعمال الإبداعية التي يُنتجها الإنسان فهي محاولات لطيفة وبسيطة، وادّعاء أصحابها، لا سيّما الشعراء منهم، أنّ الشعر يُمكن أن يشكّل بديلاً "علمانياً" لشفاء البشرية من أسقامها، يحوّلها من مجرّد كونها كتاباتٍ فنّية صغيرة إلى كتابات مثيرة للسخرية.
وقد وضّح الشاعر كيف أنّ الفنّ عموماً لا يَعْدو كونه محاولةً لمحاكاة الخَلق، ويظهر ذلك عبر الالتزام بفكرة الإيقاع الموجود في الطبيعة نفسها من خلال زقزقة العصافير مثلاً، التي ينقل روندوني، على لسان الموسيقار الفرنسي أوليفييه ميسيان، كيف أنها "تتتابع في صيغ لحنية تتكرّر من مرّتين إلى خمس مرات، وعموماً ثلاث مرات تماماً كما هو الحال في الكثير من الشعائر الدينية... وحيث المقاطع تتمتّع بتجديدٍ إيقاعي يكاد لا ينفد. توليفات غير متوقّعة على الدوام، مفاجِئة ومُدهشة تُظهر حالة توازن شديدة يصعب تخيّل أنها ارتجالية".
للتماهي مع الطبيعة لا يكفي نظم أبيات عن زهر اللوز
"لغز" عدم الارتجالية هذا هو ما نجده في الشعر، والذي يسعى الشعراء باستمرار لبلوغه على نحو طبيعي، يقول روندوني، لتصبح بذلك محاولاتُ تأليه الشعر انعكاساً لفهم قاصر لأمر يُحيل ببساطة إلى فكرة الخَلق. كلّ هذا يجعل محاولةَ فرض الشعر وثناً يُعبد لإنسان الحداثة وما بعدها مجرّد دليل آخر لابتعاد الشعراء من أصحاب هذا الزعم عن الطبيعة، وإخفاقهم في فهم ماهيتها. "فهل يكفينا شرب الشاي الأخضر عند الصباح وتناول المنتجات العضوية لنعتبر أنفسنا أقرب للطبيعة؟" يتساءل المؤلّف. لا، تماماً كما لا يكفي الشعراء، للتماهي مع كمال الطبيعة، نظمُ أبيات عن زهر اللوز والغيمات وأجنحة الفراشات.
قد أبان شعراء إيطاليا مؤخّراً، بحسب روندوني، عن قصور كبير في تمثّل مفهوم الشعر من خلال التعاطي غير الموفّق مع أزمة الوباء الأخيرة - مستثنياً الشاعرَين جوزيبي كونتي وإلى حد ما فرانكو أرمينيو - حيث اتّخذ جلُّ الشعراء الإيطاليين موقف المُستسلم تماماً لقرارات السُّلطة وشركات الأدوية الكبرى في تحويل العِلم إلى "أداة للخلاص"، بالرغم من أنّ موقف العلماء والشعراء من الطبيعة لا بدّ أن يكون بالأساس نابعاً من موقفٍ واحد هو المتأمِّل للأول والملاحِظ للثاني، بحيث لا يُفترض أن يعتقد لا العالم ولا الشاعر بقطعيّة نتائجه وديمومتها.
ليس الشعر بديلاً "علمانياً" لشفاء البشرية من أسقامها
وحرص الكاتب في فصول عدّة من مؤلّفه على التأكيد على عدم وجود حدود بين حِرفة الشاعر والعالِم، وذلك من خلال فصل كـ"الآنسة ديكنسون والسيد أينشتاين" والقسم الثالث المعنون "الشعر والعِلم، ملاحقة محبوب لمحبوب؟". ولعلّ هذا النهج في تمثُّل الشعر يبرز بوضوح لدى الجيل الجديد من الشعراء الإيطاليين مع فرانتشيسكا بوكا الدقر (1987) التي تستلهم تجربتها الشعرية من التراث الاسلامي، حيث كان أبرز علماء الحضارة العربية يقرضون الشعر على غرار الخوارزمي وابن سينا.
كما رصد روندوني في مؤلّفه أبرز التجارب الشعرية الإيطالية والعالمية في سبر أغوار الطبيعة، إلّا أنّنا نجد غياباً تاماً للشعر العربي المعاصر، ربّما لمحاكاة نماذجه المترجمة والأكثر شهرة للشعر الغربي (لا سيّما الفرنسي). لكن النظرة الإسلامية في مقاربة هذا الموضوع كانت حاضرةً في الكتاب. يقول روندوني: "في التقاليد الإسلامية العظيمة (وعلاوةً على عدم تأليه الطبيعة)، فإنّ الإنسان مدعوٌّ إلى أن يتدبّر في السماء، في الإبل، وفي النبات، لإيجاد علامات عظمَة الخالق، لغة الاستعارات الشعرية غنيّة بالإشارات إلى الحياة الطبيعية والنفس البشرية والله... الصبح يتنفس والنجوم تنكدر... رحلة الإنسان على الأرض، بوصفها مغامرة محفوفة بالمخاطر، تتزامَن مع التحقُّق من الحكمة من العيش إذا ما اختبر الإنسان كلّ ذلك على المستوى الصحيح..."، ويذهب روندوني للتّأكيد أن هذا المنظور الأصيل يتطابق تماماً مع موقف أعظم شعراء إيطاليا، دانتي ألغييري، من الطبيعة.
* روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا