يأتي "معرض عمّان الدولي للكتاب"، الذي تتواصل فعاليات دورته العشرين حتى مساء غد السبت، كأوّل معرض عربي يُنظّم بعد "عودة" الحياة إلى طبيعتها، بعد انعقاد عدّة معارض خلال الأشهر الماضية في بلدان لا تزال تعيش إجراءات مشدّدة إلى حدّ ما، ما ساهم في انخفاض عدد الزوّار بشكل كبير، مثلما حدث في "معرض القاهرة".
تركّز حضور دور النشر المشاركة في المعرض على عدد من البلدان المجاورة؛ العراق وسورية وفلسطين ولبنان ومصر، والتي فُرض عليها الدخول مِن بلد مثل الأردن يُصنَّف آمناً بالنسبة لاستقرار الوضع الوبائي فيه، للمشاركة في "معرض الرياض للكتاب" الذي يُفتتح في العاشر من الشهر الجاري. ورغم التراجع عن هذا الشرط لاحقاً، إلّا أنَّ العديد من الناشرين المصريّين، خاصة، اضطرّوا لشحن كتبهم إلى عمّان في وقت سابق.
زوّار كُثر توافدوا على "معرض عمّان" خلال الأيام الماضية، وبدا مجيئهم شكلاً من أشكال الابتهاج برؤية إصدارات معروضة بعد حرمانهم حوالي سنتين من هذا المشهد، لكن ذلك لا يعني اقتناء مؤلّفات لا يمتلكون ثمن شرائها، في بلد يُعدّ الأغلى في أسعار الكتب عربياً مقارنة بمعدل الدخل للأفراد، وسط شكاوى متكرّرة حول عدم تقديم حسومات من قبل دور النشر، والتي يمكن الحصول عليها لدى المكتبات وموزّعي الكتب في وسط البلد بالعاصمة الأردنية خارج المعرض.
شكاوى متكرّرة حول عدم تقديم حسومات من قبل دور النشر
كما تغيب أية استراتيجية حقيقية لدعم الكتاب في البلاد، وخير شاهد على ذلك تراجع ميزانية التربية والتعليم عن سياساتها السابقة باقتناء العناوين الجديدة التي تصدرها دور النشر الأردنية بذريعة التقشّف في ميزانيتها، والذي أدّى إلى تهميش المكتبات المدرسية، ناهيك عن اعتماد الجامعات على معارض الكتب العربية والأجنبية في توفير حاجاتها من المؤلّفات، وهو يتوافق مع رغبة الأكاديميّين في الذهاب في رحلات مغطّاة مالياً إلى تلك المعارض.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يلفت إسلام حسني، مسؤول جناح "مؤسّسة هنداوي"، إلى أنّ إقبال الزوّار متوسّطٌ في الدورة الحالية، غير أنّ اعتماد مؤسّسته على النشر الإلكتروني الذي بدأته قبل انتشار فيروس "كوفيد - 19" بفترة طويلة يجعلها لا تعتمد على البيع المباشر، إلّا أن ذلك لا يحول دون الطلب على الكتب الورقية المترجمة، وفي طليعتها سلسلة "مقدّمة قصيرة جدّاً"، التي تصدرها بالتعاون مع "منشورات جامعة أكسفورد"، وتهتمّ بكلاسيكيات تاريخ العلم والفلسفة والفنون.
عناوين تستهوي الشباب الذين يشكّلون النسبة الأكبر من زوّار المعرض، ويتوجهون بشكل أساسي إلى عناوين مترجمة، بحسب عدنان السيد مسؤول "دار الفارابي"، والذي ينبّه إلى تعطّش الناس للاطلاع على الإصدارات المعروضة وتصفحها والاستفسار عن ثمنها الذي يحول في كثير من الأحيان دون شرائها، وتتركّز استفساراتهم حول روايات أمين معلوف ودوستويفسكي، وكذلك بعض إصدارات الدار في الفلسفة والسياسة والتاريخ.
وعند سؤاله عن مصادرة إدارة المعرض لكتابين من منشوراته هما "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" لجورج قرم و"الأعمال الشعرية، 1946 - 1966" لمعين بسيسو، ردّ بالإيجاب رغم الموافقة على قائمة إصداراته كاملة التي أرسلها للمنظّمين من أجل المشاركة، كما أن هذين العنوانين لم يُمنعا في دورات سابقة.
تكمن المفارقة هنا في عدم وجود رؤية واضحة في الرقابة على الكتب عند مراجعة شواهد وقعت في دورات ماضية، فما يُمنع اليوم قد يُسمح به غداً، والأهمّ من ذلك كلّه أن الرقيب الذي صادر الكتابيْن المذكورين يعلم علم اليقين أنهما يُوزّعان لدى العديد من المكتبات وبسطات الكتب في عمّان. من جهة أُخرى، لا يمكن الحصول على قوائم معلنة للكتب المحظورة، حيث يتمّ التوافُق ودياً مع ناشريها الذين يفضّلون بدورهم عدم الاعتراض لضمان مشاركتهم في الأعوام المقبلة.
يتوجه القرّاء الشباب بشكل أساسي إلى العناوين المترجمة
لا يشكّل المنع هاجساً لدى دور النشر التي تغيّر قوائمها باستمرار بما يتناسب مع إدارة كلّ معرض عربي، وتنحصر شكاواها غالباً في الإخلال بالوعود التي تلقّوها حول اقتناء مؤسّسات حكومية وجامعات لعدد من إصداراتهم، كما يلفت بلال ستّار مسؤول "دار سطور" إلى أنّ هذه المؤسّسات كانت تتواصل مع الناشرين قبل انعقاد المعرض بأشهر، وهو عُرف غاب هذا العام.
وبخصوص طبيعة العناوين التي تلقى إقبالاً أكثر من غيرها، يبيّن أن الكتب السياسية تجد قرّاء أكثر في "معرض عمّان" مقارنة بمعظم المعارض العربية التي يتوجّه جمهورها إلى الأدب، حيث نفدت لديه نسخ كتاب "حوارات مع التاريخ والسلطة" لأوريانا فالاتشي بترجمة علي عبد الأمير صالح، الذي يتضمّن حوارات مع شخصيات سياسية، منهم زعماء عرب أجابوا عن تساؤلات لا تُطرح في الإعلام العربي.
ويقترح ستّار تأسيس مؤسّسة أو مؤسّستين فقط لتوزيع الكتاب في كلّ بلد عربي، ما يحقّق انتشاراً أوسع لجميع دور النشر العربية، التي من المتوقع أن تشهد مزيداً من الخسارات في ظلّ ارتفاع تكاليف المشاركة في المعارض مع تضاعف أجور الشحن والنقل أضعافاً عدّة منذ العام الماضي، إلى جانب قيود السفر التي تحدّ من إمكانية تنقّل ناشرين من بعض البلدان العربية.
بدوره، يبدي مروان عدوان، مسؤول "دار ممدوح عدوان"، تفاؤله بالقول: "المعرض جاء بأحسن من توقّعاتنا السيئة حوله"، كما أن وسائط التواصل الاجتماعي استطاعت أن تخلق اتصالاً مباشراً بين الناشر وبين قارئه الذي بات يحدّد عناوين معينة يرغب في شرائها قبل انعقاد المعرض، فيتم إحضار نسخ أكثر منها مثل كتاب "حيونة الإنسان" للكاتب السوري الراحل ممدوح عدوان، والذي يتزايد الإقبال عليه رغم مرور أكثر من ثمانية عشر عاماً على صدوره، وكذلك روايات أُخرى تصدرها الدار، ومن بينها "أيام قوس قزح" و"ساعي بريد نيرودا" لأنطونيو سكارميتا بترجمة صالح علماني، و"سارقة الكتب" لماركوس زوساك بترجمة داليا مصري.
المعضلة الكبرى التي يواجهها الناشر، بحسب عدوان، تتمثّل في تزوير معظم إصداراته، حيث تملأ النسخ المقرصنة منها مواقع إلكترونية، ولم تُفلح محاولات "اتحاد الناشرين العرب" في مكافحتها. وينوّه أيضاً إلى أنه يعتقد بأنّ إنشاء شبكات توزيع عربية لن يكون مجدياً، مع غياب تصنيف حقيقي لمستوى الكتّاب وحجم إيرادات كتبهم، والاتكاء على منطق العلاقات العامة في الترويج لعناوينهم.
بعيداً عن أعين الكبار التي تراقب الكتب وتتردّد في شرائها، تتوزّع العديد من العائلات على ركن يضمّ عدّة دور نشر متخصّصة في مؤلّفات الصغار، والتي يؤكّد مازن محيو مسؤول "دار ومكتبة المعارف ناشرون" على عدم تضرّرها بسبب جائحة كورونا، بل إنّ الإقبال عليها تزايد بفعل اضطرار الناس للمكوث فترات أطول في بيوتهم وعدم ذهاب أطفالهم إلى المدارس مع تطبيق آلية التعليم عن بعد في الفترة الماضية، بالإضافة إلى التطوّر الذي تشهده صناعة كتاب الطفل، خاصة التعليمية منها، والتي تستعين بالمجسمات ونغمات وأصوات، وتنبعث منها روائح أيضاً من أجل إيصال مضمونها للقارئ الصغير.
تبقى ملاحظة أخيرة تتّصل بالنظرة الرسمية إلى الكتاب في الأردن، حيث يتزامن المعرض هذا العام مع "مهرجان جرش" الذي افتتحه رئيس الوزراء وسط حضور كبار المسؤولين وعدد من السفراء لدى المملكة، وتخصيص ميزانية كبيرة للتظاهرة، مقارنة بالمعرض الذي يقتصر حضوره على وزير الثقافة الذي يتسلّم حقيبة لا تحظى باهتمام يُذكر، وأخفقت حتى اليوم في توطين الثقافة في كافة مجالاتها كفعل دائم يستقطب الجمهور، وإنما تعاملت معها كمواسم عابرة مخصّصة للنخبة.