السجن الذي يبدو مكاناً في رواية "ملحمة صغيرة عن السجن" للألباني بسنيك مصطفاي لا يلبث القارئ أن يكتشف أنّه أكثر عمقاً من كونه مجرّد مكان. الرواية الصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون"، بترجمة أنجزها عن الألبانية إبراهيم فضل الله، تتناول التغيرات النفسيّة العميقة التي يسبّبها السجن للسجين وللسجان ولعائلاتهم.
تتوزع الحكاية على ثلاثة كتب، كلّ منها يروي جانباً من حياة السجن. تسبر الرواية عالم السجن المظلم، وفي تفكيك الظلمة يتفكّكُ إنسانٌ صنعه السجن، من غير أن يخرج إلى الحرية إنسان جديد مُعافىً. لا تخلو الرواية من قسوة الواقعية، كذلك لا تخلو من آمالها. في الكتاب الأول يقصّ بارذيل هوتا حكاية والده عمر هوتا، وهي حكاية صاغها الجدّ أوسو هوتا بتناقضات الحضور والغياب، فالجدّ كان معتقلاً سياسياً خلال النظام الملكي.
وقد نشأ عمر على صورتين متناقضتين: واحدة تمتدّ فصولها حتى الثانية عشرة من عمره، وهي صورة صنعتها المخيّلة لذلك الأب الشجاع الذي يحمل بين ضلوعهِ قلب تنّين، الأب الذي تباهى الآخرون ببطولاتهِ وشجاعته. فهو رجل يواجه دولة، بما في الفرد من صغر، وما في الدولة من عظمة. كذلك بقيت تلك الصورة عن الأب الشجاع المختلف تنمو في مخيلة الطفل، نوعاً من التعويض عن غياب الأب. فبمقارنةٍ مع باقي الأطفال الذين يعيشون في كنفِ آبائهم، كان لعمر أبٌ مختلف عن الآخرين. وهذا الاختلاف المؤكّد هو ما صنع العزاء للطفل الذي يعيش أشبه باليتيم. ما إن عرف عمر أنّ والده يعيش في السجن، ومن جرّاء احتدام مخيّلته، حتى عزم على أن يكون السجن مصيره أيضاً.
ليس السجن جدراناً أربعة فحسب، بل تصوّرات وأفكار أيضاً
لكنّ حدثاً تلقائياً سيحطّم الطفل، عندما يزور مع والدته وهو في عمر الثانية عشرة والدَه أوسو هوتا في السجن، يجد رجلاً هزيلاً وضعيفاً، ذليلاً حتى أعماق روحهِ، يبكي أوسو ويحتضن طفلهُ عمر، الذي يتقزّز من والده الضعيف، تتفجّر دموعهُ ويهرب منه. ليكبر عمر وينبّه ابنَه بارذيل، أنّه لو دخل السجن فلن يزورهُ هناك.
مثلما تعمل المخيلة في حياة الطفل، كذلك تعمل في مخيّلة السجين، وهو في الكتاب الثاني الراوي بارذيل، وقد دخل سجن ألبانيا بعدما صارت جمهوريةً شعبية اشتراكية. أعاد بارذيل سيرة جدّه بعد ستين عاماً؛ يحرّكه خوف من لقاء زوجتهِ ليندا بعد أحد عشر شهراً قضاها ينمّي تخيّلاتهِ الجنسية عن لقاء محموم سيجمعهُ مع زوجته الشرعية. وقد أصاب تحذيران
ــ أحدهما من زميلهِ في السجن وهو يراه ذاهباً إلى اللقاء الموعود: "أيّها الفرحان. لا تفرح"، وآخر أطلقه السجّان: "احفظ المسمار في دماغك" ــ مخيّلته في مقتل.
وتحوّلت الخيالات الشاعرية للسجين إلى نوعٍ من الهذيان الذي يستمر طوال ساعات اللقاء مع زوجتهِ، إذ يتهيأ حضور الشرطي صاحب البزّة العسكرية معهما في الغرفة المخصّصة للقاءات داخل السجن، ما يمنعه من أن يكون طبيعياً معها، إلى جانب مخاوف كثيرة لم تتوقّف عن الإلحاح في دماغهِ، مثل خوفه على ليندا وانهيار ثقتهِ بنفسهِ، إضافة إلى الذبابة التي لا تتوقّف عن الطنين في أذنه، كلّ هذه الأمور، منعت اقتراب بارذيل من زوجتهِ. ويظهر خلال هذيانهِ وتداعيهِ المؤسف عمقُ العنف الذي تمارسهُ الدولة على خصومها السياسيّين، حداً يفكّرُ إزاءهُ بارذيل بأنّ غرفة اللقاءات تلك التي أجهزت على علاقة أبيهِ بجدهِ، وعلى علاقتهِ هو مع زوجتهِ، إنّما هي أعتى تجهيزات التعذيب في السجن. ذلك لأنّ السجين يدرك الأذى الذي طاولَه، بتحطّم صورتهُ القديمة أمام أحبائهِ على نحو لا عودةَ عنه.
في الكتاب الثالث تدور الملحمة الصغيرة عن السجن في خارجه، ويتّضح للقارئ أنّ الرواية برمّتها رواية عن الواجب والمسؤولية. إذ يقصّ الراوي حكاية ثلاثة نماذج تقدّم التصوّر ذاته حيال العالم. ذلك أنّه بعد خروج الإيطاليين وانتظار دخول الألمان إلى ألبانيا، تغيب أجهزة الدولة بانتظار المحتلّ. لكن يبقى كلّ من الصحافي والسجّان والعسكري المتقاعد أمينين لمسؤولياتهم. إنّ كلّاً من الثلاثة يقدّم مثالاً على الإنسان الذي تسجنهُ مهامه، فالسجن ليس في القلعة فقط، بل في الأعمال التي يلتزمها الناس طوال حيواتهم.
تفكيك تجربة السجن لا يعني خروج المرء منها معافىً
تروي ليندا حكاية جدها حكمت هيدي، كي تفهم عقدة والدتها تجاه السّجون، بعد رفضها تزويج ابنتها ببارذيل، فقد أرادت تزويجها في مكان ليس فيه سجن سياسي. تصل ليندا إلى حكاية الجد؛ في الأيام التي أعقبت خروج الإيطاليين يهرب السّجناء من القلعة آخذين معهم السجّانين كي يُعاقَبوا على سوء معاملتهم، لكنهم يتركون حكمت هيدي في سجنهِ لأنّه كان رحيماً معهم. وبانتظار القادة الجدد لألبانيا، يجمع السّجان هيدي الحجارة ويضعها في الزنازين. بذلك يتّهم بالجنون، ويُلحِق العار بزوجته وبابنتهِ، والدة ليندا، بعد إشاعةٍ مفادها أنّه سيعتقلهما ليصنع سجناً حقيقياً بسجناء آدميين.
تدور أحاديث وروايات كثيرة عن لحظات حكمت هيدي الأخيرة في السجن قبل تسليمهِ أصولاً، وفي غياب عنف الدولة تتكشّف الرواية عن عنفٍ آخر، وهو عنف الناس. إذ يعرض السرد في القسم الأخير منه حكايةَ صحافي بدون جريدة ومحارب من غير جيش وسجّان من غير سجن، وفي هذه الأمثلة التي تعيش في فراغ العمل تسيلُ دعابةُ الناس وتتخفّى وراءها خسّتهم. في انتظار وصول الألمان، وأمام جموح الناس وعنفهم الذي يتأتّى من التصوّرات السيّئة عن أجهزة الدولة، تبقى تساؤلات المجنون عن انتهاء الديكتاتورية.
من عتمة السجن، المكان المُغلق الذي يشكّل مختبراً غنياً لكلّ كاتب، ينقل بسنيك مصطفاي تساؤلاتِ السجن بين جدران القلعة، إلى سجونٍ شتّى. بدءاً من تصوّرات الشخصيات عن نفسها، وتخيّلاتها عن الآخر، إلى السجن الذي يصنعه الآخرون في المحيط الاجتماعي، وأشكال تحكمهم في مصير الفرد. أمّا العتمة القاسية في السجن، فتستمّدُ ظلمتها من امتدادها إلى الأفكار، وتحطيمها للفرد من الداخل.
* كاتب من سورية