يُشكّل اللجوء إلى المسرح، بغاية عَرض الأزمة الاقتصادية التي يعيشُها لبنان، نوعاً من السخرية المُركّبة، خاصّة إذا كانت الرسالة التي يُريد القائمون على العمل إيصالَها تتمثّل في أنّ ما نعيشه هو المسرحية، لا ما نشاهده على الخشبة وحسب.
هذا ما تحاولُه المخرجة اللبنانية كريستيل خضر في عملها "مَن قتل يوسف بيدس؟"، والذي اشتركَ فيه كلٌّ من نديم دعيبس (سينوغرافيا) وزياد مكرزل (تصميم صوت) وفيليبّا دحروج (تصميم غرافيك) ووليد صليبا (إدارة إنتاج). العمل عبارة عن تجهيز تفاعُلي، وقلّما تنطبقَ عليه شروط المسرح الكلاسيكية، من قِسمة بين جمهور متفرِّج وخشبة تحتضن الممثّلين. وقد بدأ عرضُ التجهيز في "مركز بيروت للفنون المُعاصرة" في الرابع والعشرين من الشهر الماضي، ويستمرّ إلى السادس عشر من الشهر الجاري، عند السابعة مساء كلّ جمعة وسبت.
القصّة ليست لها جذور، شأنها شأن السندات التي يتداولُها الناس من دون أن يستفيدوا منها بشيء سوى الإحالة إلى الخسارة والهباء، وكذلك هو السؤال اللُّغز الذي يستبطنه عنوان العمل، إذ ليسَ المهمّ "مَن قتلَ مَن؟" فالأمر ليس بوليسياً ولا غامضاً على الإطلاق بل شديد الواقعية.
يُسائل العمل توسّع النيوليبرالية ويبحث الانهيار المالي الراهن
تليق استعادة يوسف بيدس الفلسطيني - اللبناني (1912 - 1968) بالوضع اللبناني الراهن، فهو مؤسّس "بنك إنترا" في خمسينيات القرن الماضي، وتمكّن من استغلال طفرة الأمان المصرفي في تلك المرحلة، قبل أن يسقط سقوطاً مدوّياً ويُشهر إفلاسه عام 1966. لكنّ استعادته اليوم تُطرَح بصيغة عمومية، المُفلسُ فيها هي الدولة لا البنك، والخاسر ليسوا زبائن محدودين بل الشعب.
قصّة "بنك إنترا" يمكن القول عنها إنّها مضرب مَثَل في لبنان والمنطقة، بل هي أشبه بحكايات الغِيلان التي يخشاها الجميع من دون أن يعوا تفاصيلها، رغمَ ما خلّفته من ضحايا كُثُر. وبناءً على هذه الأسطورة المؤسِّسة، جاءَ تصدير هذا التجهيز التفاعلي "يُسائل حركة توسّع النيوليبراليّة عبر دورات الخيبات العاطفية، باحثاَ بواقع الانهيار الاقتصادي الحاصل في لبنان اليوم من خلال الظروف التي أحاطت بإفلاس (بنك إنترا) عام 1966".
وبعيداً عن الخوض في التاريخ والاقتصاد والخيبات النفسية، لا يمكنُ إغفال الجانب الجمالي لعملٍ مُثقل بالإشارات والإحالات، ولكن جماليّته ليست نمطية أو كلاسيكية، إنّما تتكوّن من حيثُ احتفاؤه بالشكل والذهاب بالتجريب وكذلك التفاعُل إلى أبعد حدوده. واللافت أنّ الحدود تذوب بين مكان العرض ومكان مشاهدَته، وهو مخصّص لأربعة وعشرين شخصاً فقط، يتناظرون بعضهم أمام بعض ليبدؤوا بأنفسهم لعبة التداوُل/ التفاعُل، بناءً على أوامر تصل من صوت أنثوي غامض للشروع في تبادُل السندات الموجودة على الطاولة التي تفصل المجموعتين.
نتيجةُ اللعبة محسومة وإن تخلّلها الكثير من عمليات الاستدانة على أمل التعويض، لكنّها في النهاية تُكلَّل بإشهار الإفلاس. هذه ليست نهاية العرض/ اللعبة ولا شبح "بنك إنترا" الذي يُخيّم على رؤوس الحاضرين، بل إنّه ما يعيشه اللبنانيون منذ عام 2019 إلى اليوم.