يفاجئنا أن نعلم أن الطبعة التي بين أيدينا من رواية "نازلة دار الأكابر" هي الرابعة. يبدو هذا بحدّ ذاته احتفاءً بالرواية التي نالت "جائزة الكومار" في تونس، وحلّت في اللائحة القصيرة لجائزة "البوكر"، لكنها لم تجتزها لتنال الجائزة، وقد يخطر لكثيرين أنها أحقّ بها. مع ذلك فإن الطبعات الأربع و"جائزة الكومار" واللائحة القصيرة لـ"البوكر" ترشّح جميعاً كاتبتها، أميرة غنيم، لمكانة لافتة في الرواية العربية.
لا يخطر لقارئ غير تونسي أنّ الرواية هي رواية الطاهر الحدّاد، أي أنّ المُصلح التونسي الذي كتب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وعانى بسبب أفكاره الإصلاحية في الدين خيباتٍ شتّى، من بينها رحيله المبكّر، هو بطلُها، رغم أنّ النازلة التي حلّت بدار الأكابر تعود، على نحو ما، إليه. فهو في الرواية قلّما يظهر إلّا في أحاديث النازلة وعواقبها. بلى، إنه يظهر حين يكلّفه علي الرصاع تعليم بناته، ويظهر في الاحتفال بكتابه الذي انقلب وبالاً عليه، ويظهر وهو يخطب للاّ زبيدة ابنة الأكابر وأبوها يقرّعه ويردّه، ويظهر في أواخر حياته، وقد اضطرّته الخيبات إلى أن يعمل في دكّان.
هذه هي المحطّات القليلة التي نصادف فيها الطاهر الحدّاد، غير أنه، في عداها، يختفي بينما تبقى نازلته تعمل وتولّد عواقب وتداعيات. يختفي بحيث نتفاجأ ونحن نقرأ شعراً له نعلم منه أنها أشعار حقيقية وأن صاحبها حقيقي مثلها. نتفاجأ أيضاً ونحن نقرأ تعقيبات تونسية على الرواية، لا تنزل عن ذكر الطاهر الحدّاد واعتباره بطل الرواية، أو اعتبار الرواية تدور حوله.
نتفاجأ بأنّ الرواية لم تتّجه إلى ذلك ولم تتعمّده. صحيح أن "نازلة دار الأكابر" تعود إليه، النازلة التي هي قصاصة التي أرسلها الطاهر الحدّاد إلى تلميذته السابقة، زوجة محسن النيفر. قصاصة لا نعرف سرّها، لكنّه سرٌّ يبقى يتقلّب في الرواية على طولها. بل يمكن القول إن من ميزات الرواية أنها اختطّت هذا الأسلوب، من ميزاتها أنها تكاد تتمحور حول النازلة، بدون أن يبدو في هذا شطط أو مبالغة أو تكثّر.
لا يخطر لقارئ غير تونسي أنّ بطل الرواية هو الطاهر الحداد
النازلة في الرواية هي مرايا لمجتمعها، بل هي ظاهرة من أعين شخصياتها، أعين الخادمة والزوج وأخيه وأبيه والسيدة زبيدة وأبيها وحفيدتها. النازلة تنتقل من أمام الشخصيات، وتتّخذ كل مرة إهاباً آخر، وتنبني وتُعاود البناء في حركتها تلك. في أثناء ذلك تستمرّ الرواية في ملاحقتها للنازلة، وفي استطراداتها الطبقية والنفسية والفكرية. تنبني الرواية حولها طبقياً وتاريخياً ودرامياً وبسيكولوجيا وفكرياً. تنبني كرواية قبل كلّ شيء، بل هي في مسارها رواية على الدوام. شخصياتها وحوادثها وسرديتها، هي قبل كلّ شيء هذه الرواية. لا نستطيع أن نستخرج منها أحكاماً أو عبراً. ما تقدمه ليس نماذج، بل بشر حقيقيون. البطاقة الطبقية ليست وحدها كما يحمل العنوان؛ إنها قائمة بقدر ما هي متفاوتة ومتنوعة. علي الرصاع غير عثمان النيفر، والاثنان من الأكابر، ومحسن المتمغرب العائد من ألمانيا لا يبقى كذلك حين تُجرَح ذكوريته، وزبيدة، التي شللها وسقوطها شبه رمزيّين، تضل في سلوكها هذا ابنة أكابر. ثم إن الخادمتين، على كونهما خادمتين، تملكان جانباً من مفاتيح الرواية. هكذا تنبني حول النازلة رواية ومجتمع، بل هكذا تتحوّل النازلة إلى دنيا ورواية كاملة.
لا يمكن إلّا أنْ نقول إن أميرة غنيم استطاعت أن تحبك، بإحكام، رواية حول عناصر آتية، لأول وهلة، من التاريخ ومن الطبقات ومن السجال الثقافي، محوّلة كلّاً من ذلك إلى مدماك روائي، وإلى حبكات مسترسلة ومبنية ومتفاوتة ومتعارضة، ما يعني، قبل أي شيء، أن الرواية تنبني من كلّ العناصر وتفعل في كل العناصر. ما يعني أنّ ما يبقى هو بالطبع غير التاريخ وغير التحليل الاجتماعي، بل وغير النموذج الطبقي والنموذج الثقافي والنموذج السياسي. هذه جميعها تمتلك في الرواية خصوصيتها، بل وتملك تلك الرواية معها مناخاتها ورمزيتها واستعاريتها وسردها.
هذا ما يمكن أن نتبيّنه في "نازلة دار الأكابر" التي هي في تنقُّلها بين الشخصيات وبين الأوقات، تكتسب حضوراً رمزياً تتكشّف أمامه وحوله خبايا الرواية ووقائعها. وقائع تنتشر وتنبني في نوع من احتفالية، نشعر معها وتُساعدنا جزالة اللغة والمونتاج الروائي والبناء السردي، على معاينة إيقاعية راقصة تنتظم حول النازلة التي تبدو هكذا لحناً ناظِماً، لا تبدو فيه الرواية كتلة واحدة فحسب، ولكن أيضاً احتفالاً متواتراً.
* شاعر وروائي من لبنان