ضمن أحداث الثورة، وبعدها، كانت تونس مسرحاً لتنشّط حركة الرسومات الجدارية التي ظهرت بعفوية ضمن الاحتجاجات والمظاهرات بادئ الأمر ثم سرعان ما تهيكلت لنجد لاحقاً عدداً من المجموعات الفنية المتخصصة في فن الغرافيتي، أبرزها تجارب "أهل الكهف" و"مولوتوف" و"زواولة".
بروز هذه الظاهرة بشكل مرئي وصريح يجعل منها مادة بحثية ولو بعد حين، وهو ما نجده في كتاب "نحْوُ الشوارع" للباحث التونسي توفيق العلوي، وهو عمل صدر مؤخراً عن منشورات "دار محمد علي الحامي".
يدرس العلوي التدوينات الجداريّة باعتبارها شكلاً من أشكال الخطاب له كوداته وبناه وخصائصه الأسلوبية حيث اعتمد على نظريات اللسانيات والتداوليّة والسيميائيّة، وهو بذلك يضيء بأدوات علمية ما يعتبر عادة ضمن "الثقافة الهامشيّة".
يكتب العلوي في مقدّمة كتابه: "لقد رسخ في ذهني منذ أن كنت صبيّا أنّ "الخربشة" على الجدران بطَبشورة أو فحْمة أو صِباغ ما، سلوك همجيّ، ومروق أخلاقيّ وتلويث للمحيط، واعتداء على بهاء الحيّ وجمال المدينة، فمحامل الكتابة في ذهني لوحُ المؤدِّب، وكرّاسُ القسم، وسبّورة كنت أتسلّقها لكتابة حرف مائل يراه سيّدي المعلّم ذنباً غير مغفور".
ويضيف: "كنت أخربش على رمال البحر كلماتٍ سرعان ما تغضب عليها أمواجه، وكذلك أفعل على تربة جبال متكلّسة لم تَرتوِ منذ زمان، أقتطع من غصن شجرة عوداً أدوّن به ما لا أتذكّره الآن، وأرسم به صوراً لم أرَ لها معنى. ما كنت أعرف وقتئذ أنّ اللامعنى جوهر المعاني، وما كنت أدري أنّ الزمان قد دوّن في دفاتره أنّي كاتبٌ زمن الكِبر كتاباً في التدوينات الجداريّة برؤية نحَويٍّ خبِر الأبنية، ولسانيٍّ جرّب الوصف والتنظير، وتداوليٍّ يرقُب القول في مقامه، وسيميائيٍّ تدرّب على قراءة الأشكال وتأويلها".