.. في دلهي، وجدَ آغا شهيد علي الشعرَ متربّعاً في كلِّ شارعٍ وفي كلِّ زاوية وعند كلّ منعطف. وقد صرّح شهيد في مقابلةٍ مع مجلةِ "فيرست سيتي"، في عام 1991، قائلاً: "أحبّ شوارع دلهي فعلاً، وخاصّة تلك الشوارع التي تؤدي من وإلى المسجد الجامع. كلّما زرتُ مطعم 'كريم' أو كلّما تناولتُ يخنة نهاري أو حلوى الكولفي على درجاتِ سلالمِ المسجِدِ الجامِع، تخيّلتُ نفسي في عصر الشاعرِ ميرزا غالب".
وعلى عكسِ أوكتافيو باث الغريبِ عن دلهي، والذي لا يمتلكُ سوى أن يذوبَ في عشق عمارة هذه المدينة، تنفَّسَ شهيد التاريخَ فيها أيضاً. فرغمَ اطّلاعِهِ على العوامل والقوى التاريخية التي شكّلتْ كشمير، إلا أنّه اكتشَفَ في دلهي التاريخَ الحقيقي في الجُدرانِ المبنيّة من الطوب وفي تلافيف المآذن ونواصي الشوارع. كتبَ شهيد في كتابِ "المدينة المُسوَّرة: سبعُ قصائدَ لدلهي" عن ذلك المسجِدِ الجامع:
"تخيَّل معي: يوماً ما لم يكن هنا سوى الفراغ.
انظُر كيف تخفي المآذِنُ اليوم غروبَ الشّمس، هل تسمعُ الأذان؟
يتركُ لي فكَّ لفائفِ الأسطورةِ
حتى أصِلَ اللبِنَة الأولى
كيفَ تعالَتِ الصّلوات لبِنَةً لِبِنة؟".
لمعظم حياة شهيد علي، كانت اهتماماتُه الشعريّة محدَّدة، ويتّضح هذا جلياً في أوائل قصائده. إذ يعكسُ تعاملُه مع التاريخ، مع سطحِهِ وعُمقِه، حنانَهُ ورِقَّتَهُ أوّلاً، وتجربةَ شاعرٍ ينتمي إلى عوالِمَ مُتعدّدة، ولا ينتمي أيضاً إلى أيِّ شيءٍ كان. كتَبَ عن الخسارة، وعن ذكرى الخسارة، وعن عبءِ التاريخ، وعن الظلمِ بكلِّ أنواعِه. وتعود بذورُ هذه الاهتماماتِ الشعريّةِ إلى طفولتِهِ هناك في وطنه. ولكنَّ هذه الاهتماماتِ انتعشت في دلهي وتغذّت على هواءِ المدينة، وعلى تاريخِها الذي لم يتمكّن شهيد من تجاهُلَه على الإطلاق.
قال شهيد علي مرّةً إنّه لطالما أدرك اختلاف موسيقى لغته
يَظهَرُ شهيد علي في قصائدَ من مجموعتيه الشعريّتين "منحوتة العظام" وفي "ذكرى بيغوم أختر"، كشاعرٍ مسكونٍ بثقافةِ جنوبِ آسيا، ويولي اهتماماً كبيراً أيضاً للسّياسة. طُبعتْ كلا المجموعتين بطابع دلهي، وعكستا فهماً مميّزاً للتاريخ. تعرّف شهيد علي منذ نعومة أظفاره على الحركاتِ التاريخيّة والثوراتِ والقادةِ الذين شكّلوا عالمه.
حفَرَ شهيد علي، بمرور الوقت، مكانَتَهُ كشاعرٍ مع نشرِ قصيدتِهِ "بعد مشاهدة الملك لير لكوزينتسيف في دلهي"، والتي تتحدّثُ عن الإمبراطورِ المغوليّ الأخيرِ بهادر شاه ظفر. يتّخذُ شهيد علي في القصيدة قراراً واعياً في أن يشيح بنظرِهِ عن الملك لير، وأن يتطلّع إلى بهادر ظفر، مغادراً أرض الخيال إلى الحقيقة، مصوّباً ناظرَيه إلى تاريخ المُستعمَرين لا قصصِ المستعمِرين. اتّخذ شعر شهيد في هذه اللحظة الهامّة مُنعَطَفاً جديداً، واتّخذتْ قصائدُه أيضاً وحساسيتُه الشعريّة صبغةَ نظرةِ ما بعدِ الاستعمار، وأصبحَ يُسلِّطُ الضّوءَ على الذين تجاهَلَهُم التاريخ عمداً:
"أفكّرُ في ظفر، الشاعرُ والإمبراطور،
يقودُه جنودٌ بريطانيون في هذا الشارعِ
مقيَّدَ الرجلين،
ليشاهدَ أبناءَه على أعوادِ المشانق".
وكتَبَ في المنفى:
"ظفر التعيس
أمضى نصفَ عُمرِهِ في الأمل،
والنصفَ الآخرَ في الانتظار.
وتوسّل في النهاية ليحصل على شبرين من دلهي ليدفن فيها".
نُفِيَ ظفر في ما بعد إلى بورما ودُفِنَ في رانغون.
كان المنهج الدراسي في الكلية الهندوسية التي التحق بها شهيد في أواخر الستّينيّات، لا يزال يرزح تحت عبء الاستعمار، وقد تضمن في أغلبه كُتّاباً إنكليزاً، مثل: جون ميلتون، وشكسبير، وتوماس هاردي، والشعراء الرومانسيّين. كتب شهيد بلغة مختلفة عن الشعراءِ الذين ألهموه، رغم قراءته جميع أعمالهم، وإعجابه بمعظمها.
قال شهيد علي مرّةً إنّه لطالما أدرك اختلاف موسيقى لُغتِهِ، وأنه تمكّنَ ولأول مرّة من إضفاءِ نكهاتٍ معيّنةٍ على الشّعر الإنكليزي في الهندِ، وقد تأتّى هذا برأيه من ذلك المزيجٍ بداخله من الثقافاتِ الهندوسيّة والإسلاميّة والغربيّة، ومن حقيقة أنه كان لديه "جوهر داخلي يمنحه ارتباطاً طبيعياً عميقاً بكلٍّ منها".
لم يكن استخدامُه لهذه الثقافات مستهجَناً - على عكس استيراد إليوت لكلمة "شانتيه - السلام" السنسكريتيّةِ في "الأرض اليباب". أحسّ شهيد وشعَرَ بثلاثِ لغاتٍ، ولم يكن مضطرّاً إلى "اصطياد" الموضوعات من هنا أو هناك. شرح شهيد هذا في مقال كتبَهُ لاحقاً عن الشِّعر الإنكليزي في الهند، ورأى أنَّ المُخرِج (الهندي البنغالي)، ساتياجيت راي، قد أنجَزَ ما أنجَزَهُ لأنه كان أوّل من يستخدم لغةً هنديةً خاصّة، ولأوّل مرّة، في شريط سينمائي.
"أستطيعُ استخدامَ المناظر الطبيعيّة الهنديّة، وأساطيرِ شبه القارة الهندية والميثولوجيا والتاريخ من قلب هذه الحضارة، وبطريقة تبدو لأوّل وهلة وكأنها مصطلح جديد، أو لغة جديدة، للوصول إلى اللغة الإنكليزية شبه القارية".
وهكذا سلمان رشدي أيضاً، فقد تمتَّعَ كلٌّ من راي ورشدي (وكذلك شهيد علي من ناحية الشعر الإنكليزي شبه القاري) بوفرة من التاريخِ وثروة هائلة من التقاليدِ، وما بدا وكأنّه نهرٌ سلسالٌ لا ينتهي من الموضوعاتِ التي يمكِنُهُم الغوص فيها واستكشافَها. ورأى شهيد علي أنّه ما دامت الرواية قد تمكّنت من ذلك، فلن يكونَ الشّعرُ بعيداً عن الالتحاق برَكبِها أيضاً.
غدا الشاعر الذي يتمتّع بتقاليد ونكهة التراب الهندي
لم يتخيّل يوماً أنه سيصبحُ، مع شعراءٍ مثل آرون كولاتكر Arun Kolatkar وأتبيت رامانوجان AK Ramanujan، مؤيّداً لأسلوب الكتابةِ الإنكليزيةِ في شبه القارّة الهنديّة، ليغدو الشاعرَ الذي يتمتّعُ بتقاليد وتراثٍ عريقٍ ونكهةِ التّرابِ الهنديّ حتى النخاع. درَسَ شهيد علي في مقالٍ لاحقٍ كيفيّة تغيّر اللغة الإنكليزية في شبه القارة الهندية:
"لقد غادرَ المستعمِرونَ منذ خمسينَ عاماً، ممّا مكَّنَ الكُتَّاب، وخاصّة الشّعراء، من شبه القارة الهندية، من تنفُّسِ قدرٍ أكبرَ من الثّقة في اللغة الإنكليزية الهنديّة (كما كان الحال مع والت ويتمان في اللغة الإنكليزية الأميركية) ولم يحقّقوا ذلك بفضل انتمائهم العميق للّغة الإنكليزية العالمية بجدارة وحسب (لا ننسى في هذا السياق منح جائزة نوبل لباتريك وايت، وول سوينكا، ونادين غورديمر، وديريك والكوت)، بل لأنهم قد جعلوها طوعَ أقلامهم حقّاً، من خلالِ إعادةِ تشكيلها وغرسِ كلِّ التقاليدِ وأشكالِ الكتابة الهنديّة فيها، ممّا جَعَلَ كتّاب شبه القارّة هذه يشعُرونَ أنهم ليسوا مضطرّين للحصول على أي اعترافٍ، أو إذنٍ، لتشكيل أيّ خصوصيّةٍ نحويّة أو قواعدية من المَلِكاتِ، فيكتوريا أو إليزابيث (الثانية بالطبع). وللكثير من الأسباب المختلفة أيضاً، فإنّه من دواعي سرورِنا أن نُوَجِّهَ إهانةً للغةِ الإنكليزية".
بدأ بعض الشعراء الهنود الإنكليز، في الستينيّاتِ والسبعينياتِ من القرن الماضي، في الظّهورِ في المشهد الأدبي، وكان العديد منهم مرتبطين بـ بوروشوتاما لال، مؤسّس "ورشة الكُتّاب" في كلكتا. تحولّت دار النشر التي أسّسها لال، والتي كان مقرّها في مكتبة بيته في كلكتا، إلى منصّةٍ حقيقيّة تُعنى بنشرِ الكتاباتِ الهنديّة باللغة الإنكليزية. نُشرَتْ هذه الدارُ الأعمالَ الأولى لشعراءَ كثيرين، منهم: نسيم حزقيال، وفيكرام سيث، ورسكين بوند، وأتبيت رامانوجان. كما نشَرَ لال أيضاً لشهيد علي أوّلَ مجموعتينِ شعريّتينِ، وهما "منحوتةُ العظام" و"ذكرى بيغوم أختر".
كتبَ شهيد علي في التسعينيات مقالاً مفادُه أنّ "المشهد الهندي الإنكليزي" خلال تلك العقود كان "فارغاً وفاسداً تماماً" وأنه ظل "في بعض الأوساط" على حاله، مستثنياً دار نشر لال، والتي قال إنها كانت تعمل تقريباً كمنشورات فانيتي Vanity Press.
وتوسّع شهيد في مقالتِهِ الأخرى "الشعر الهندي بالإنكليزية"، قائلاً: "يتحدّثُ الهنود المثقّفون عموماً ثلاث لغات، ويكتبون بلغتين، ويحلمون بلغة واحدة - الإنكليزية". وعلى الرغم من أن قصائد شهيد علي كُتبَتْ باللغة الإنكليزية قبل فترة تبنّي العناصر الهندية في الثقافة أو اللغة الإنكليزية chutnification، أو ما سمّاه biriyanisation، إلا أنّ هذه القصائد كانت هندية للغاية بطبيعتها، بالإضافة إلى موضوعاتها أيضاً.
كانت اللغة الإنكليزية مطواعة للغاية بين يديه، أما أفكارُه فكانت مُتجذّرةً بعمقٍ في ثقافة شبه القارة الهندية. لم تكن اللغة الإنكليزية بالنسبة إلى شهيد علي هي اللغة الإنكليزية "المثالية" الخاصة بالملكة، بل نتاج تبنّي العناصر الهندية في الثقافة الإنكليزية biriyanisation. وعلى الرغم من تطوّره البطيء كشاعر، لم تكن قصائدُ مثل "العظام" و"مقدّمة" و"المدينة المُسوَّرة" وغيرها مجرّد بداية لمسيرة شعرية وحسب، بل مثّلتْ أسلوباً شعرياً مُثقلاً بالشعور بخسارة اللغة والتاريخ الخاص بشبه القارة الهندية أيضاً. تنامى تقديره الحقيقي لتقاليد شبه القارة الهندية، عندما التقى أخيراً بالفنانة بيغوم أختر، وكان ذلك في أواخر الستينيات، حيث انعكس ذلك على شعره الذي تطوّر وتغيّر تغيراً مذهلاً.
* كاتب من الهند، والنصُّ مقتطف من الفصل الخامس من كتابه "خارطة الأشواق: حياة وأعمال أغا شهيد علي"، الصادر عن دار فينتدج، 2021
** ترجمة: عماد الأحمد