آنا ماريّا ماتوته في "الذاكرة الأُولى": حكايةٌ صنعَتها الحرب

20 ديسمبر 2022
آنا ماريّا ماتوتِه (1925- 2014)
+ الخط -

الحرب حدث يملك بداية، ويمكن للمرء أن يُحدِّد لحظاتها الأولى. غيرَ أنّ آثارها تمتدُّ طويلاً، حتّى لكأنّها حدثٌ من غير نهاية، ولكأنَّ آثارها الفعلية تظهر ما إن ينتهي العدوان. ولو استطاع أحدهم رمي أوقات الحرب خارج ذاكرته، فلن يستطيع تحييد آثارها التي شكّلته. في الفضاء عينهِ تتآلفُ رواية "الذاكرة الأولى" للكاتبة الإسبانيّة آنا ماريّا ماتوتِه (1925 - 2014). فالرواية الصادرة عن دارَي "سرد" و"ممدوح عدوان" (2021) بترجمة علي أشقر، تقف عند لحظة الحرب الأُولى، وتبقى راويتها عالقة هناك.

من منظور الأدب الذي ينتخب مِنَ الذاكرة؛ تمتدُّ لحظة الحرب إلى أن تشمل حياة الذين شهدوها. إذ تعيدُ تشكيل علاقتنا مع الأشياء، وتعيد تعريفنا كأفراد، وتعريف الوجود من حولنا؛ بدءاً بالبشر وليس انتهاءً بالموجودات، وبالعلاقات التي تجمع كلّ ذلك. وليس توقُّف الزمن عند بداية الحرب ما يميّز رواية ماتوتِه فقط، بل أيضاً اختيارها راوية كان عمرها مع بدء الحرب أربعة عشر عاماً، أي إنّها كانت توشك على مغادرة الطفولة. وباقتصار حكايتها على فترة يُحدِّدُها بدء الحرب؛ بدا أنّ الراوية لا تزال توشك على مغادرة الطفولة، من غير أن تستطيع مغادرتها، من غير أن تقوى على مغادرتها. فالحرب أنجزت عملها في جعل ضحاياها ضحايا أبديّين.

تقف عند لحظة الحرب الأُولى وتبقى راويتها عالقة هناك

لا تذكر الراوية اسماً للحرب التي فصمتها عن طفولتها، كما لا تذكر أيّاً من تفاصيلها سِوى التحاق أحدهم بها. لكن من سيرة المؤلّفة يمكن للقارئ أن يتوقع أنّها تقصد الحرب الأهلية الإسبانية. صحيح أنّ "الذاكرة الأُولى" حكاية عن الحرب، لكنّها صارت كذلك عبر أسلوبها السردي. إذ نرى الكاتبة تعيد سيرة الحياة العادية قبل أن تبدأ أخبار الحرب بالظهور، وتكرِّرها تكراراً يستنزف التفاصيل التي أضاعتها الحرب. 

الذاكرة الأولى - القسم الثقافي

وقصارى جهد الكاتبة أن تجيز لراويتها عرض ما بقي من ذاكرتها من استراقات الطفولة ومغامراتها، إلى جانب مباغتة الكبار عالم الطفولة. المباغتة التي هي استباحة أيضاً، مع اكتشاف الأطفال الزيفَ الذي يحيط بهم ويشكّل عالم أهاليهم، كما لو أنّ الحقائق التي ألِفُوها أو أخبروهُم إياها محضُ افتراض. إذ تُظهِر قراءة الرسائل المتبادلة بين الكبار نقيضَ ما أخبروا الأطفال ونصحوهم بهِ.

تُغادر ماتيا وابن خالتها طفولتَهما عندما يكتشفان الخيانات العاطفية التي تملأ عوالم أُسرتيهما، عندما يقتربان من الشرّ ويقترفانه في حدود وعيهما الذي تَشكّل في لحظة مفقودة، لأنّ النّاس المسالمين لا يجيدون التعاطي مع الحرب، باعتبارها نمطاً للعيش قبل أن تطول وتحتلَّ عالمهم وحياتهم القادمة.

تصف الراوية زمن حكايتها بأنّه "زمن مظلم من ذاكرتي" وهو وصفٌ، لا لأحداث الحرب، وإنّما لما سبقها. وقد جعلته أحداثها غير المعروفة لنا، أشبهَ بالطَيف البعيد. فالحرب لا تملك وجدان الحياة العادية التي تراكم الذكريات، وإنّما تحجب الحياة السابقة، وترمي بها إلى ذاكرة أشبه بأن تكون ضرباً من التَخيُّل الذي يكرِّر نفسه، بحثاً عن عزاءٍ في حياة صَيَّرتها الحرب غامضة ومشرقة في آن؛ لكثرة تكرارها ومحاولة تذكُّرها.

نجد في أسلوب الرواية شكلاً من الحلّ لمعضلة سردية -عدا عن كونها أساساً معضلة حياتية- وهي معضلة الحرب. إذ تتقن الكاتبة قول كلّ شيءٍ عن الحرب من غير أن نرى دماءً أو خطفاً ونزوحاً، وغير ذلك من ضروب الحكايات التي نسمعها في حياتنا وفي الجوار. وإنّما فقط، ما تفعله الكاتبة، أسوة بالحرب، أنّها توقف نُمو الحياة، وتتيح لها تكرار نفسها في حلقاتٍ سردية بدا أنّها، أسوة بالحرب، لا تملك نهاية، وكأنّما للطفولة المسالمة سحرها الذي لا ينضب. وهو سحر الحبّ الأول غير المُدرَك، وسحرُ الاكتشاف والبراءة والتَخيُّل.

يُذكر أنّ "الذاكرة الأولى" هي الرواية الأُولى من ثلاثيَّة كتبتها آنا ماريّا ماتوته عن الحرب، وقد صدرت حديثاً عن دارَي "سرد" و"ممدوح عدوان" الرواية الثانية "الجنود يبكون ليلاً" بتوقيع علي أشقر، على أملٍ بصدور جزئها الثالث "الفخ".


* روائي من سورية

المساهمون