ميشيل ويلبك أمْ سلمان رُشدي؟ لا هذا ولا ذاك، بل آني إرنو. صحيحٌ أن الروائيّين، الفرنسي والهندي ــ البريطاني، كانا يهيمنان على أغلب التوقّعات والمراهنات، في الأيام الأخيرة، حول هوية الفائز بجائزة "نوبل للأدب" لهذا العام، إلّا أن نظرةً متمهّلة إلى قوائم التوقّعات تلك كانت تكفي لنرى أن اسم إرنو كان حاضراً، في كلّ مرّة تقريباً، بين أوائل المرشّحين. وعلى غير العادة، صدقت هذه المراهنات أمس الخميس، حيث أعلنت الأكاديمية السويدية فوز الروائية الفرنسية بجائزتها، ليرتفع إلى ستّة عشر عددُ الكتّاب الفرنسيّين الحاصلين على الجائزة التي تُمنح منذ عام 1901.
انفتاحٌ على الآخر والمهمّشين
وإذا كانت التوقّعات قد صدقت، في جانب منها، عبر ترجيحها فوز كاتب فرنسي بـ"نوبل" (كان ويلبك يتصدّر أغلب مواقع المراهنات في الأيام الأخيرة)، فإنها لم تستطع التنبّؤ، من جانب آخر، بمزاج أعضاء اللجنة وكلمتهم الأخيرة. ذلك أن إرنو (1940)، الفرنسية مثل ويلبك، تختلف إلى حدّ بعيد عن هذا الأخير، بل يمكن القول إنها تقف على النقيض تماماً من رؤيته اليمينية المُحافظة، ومن "مخاوفه" الثقافية، التي نستشفّها من رواياته (في "استسلام"، مثلاً، التي صدرت عام 2015، يرسم ويلبك مستقبلاً "إسلاموياً" لفرنسا، متقاطعاً في ذلك مع نظرية يمينية متطرّفة، مؤامراتية وعنصرية، هي "الاستبدال الكبير"، والتي تتنبّأ بـ"احتلال" المسلمين لفرنسا وتغييرهم لثقافتها).
أمّا صاحبة "المكان" (1983) ــ المقروءة بشكل كبير في بلدها ــ فهي معروفة برؤيتها المنفتحة على الآخَر والمختلِف، وبانتمائها إلى اليسار سياسياً، بل إلى اليسار الراديكالي (دعت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في فرنسا، إلى التصويت لمرشّح اليسار جان لوك ميلانشون)، وبنضالها، منذ عقود، إلى جانب المهمّشين والمحرومين حقوقهم، في بلدها وخارجه، وضدّ علاقات الهيمنة. هيمنة تعرف إرنو الكثير عنها، هي التي وُلدت في عائلة فقيرة وعانت، خلال عقود، من التهميش في أروقة الأدب والأكاديميا بسبب أصولها هذه. كما أنّ الكاتبة الفرنسية، بعكس ويلبك، عُرفت بمواقفها الناقدة للسياسات الاستعمارية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، ومن هذا، على سبيل المثال، توقيعها عريضةً إلى جانب مثقّفين فرنسيّين آخرين، في أيار/ مايو 2018، تُطالب فيها بمقاطعة برنامج ثقافي فرنسي ــ إسرائيلي اعتبرت أنه يشكّل "واجهة" ملمَّعة لـ"إسرائيل".
رُشّح اسم إرنو بقوة خلال الأيام الماضية لنيل "نوبل"
لم يكن نضالُ إرنو في ساحات فرنسا وشوارعها بغريب عن أدبها، حيث انتبهت مبكّراً، منذ روايتها الأولى ("الخزائن الفارغة"، 1974)، إلى أسئلة الطبقية وهيمنة النخب البرجوازية وقيَمها على فضاءات التعليم والثقافة والاقتصاد والسياسة في بلدها، وهي مسائل لن تتوقّف عن العودة إليها وتفكيكها في العديد من أعمالها اللاحقة، مثل "المكان" (1983) و"العار" (1997).
موقف نقدي من النُّخَب المُهيمِنة وقيَمها
كما سيقودها موقفها النقدي من القيَم المهيمِنة إلى البحث عن لغة تقطع مع لغة النخبة، "البرجوازية" والمتعالية، وهو ما ستجده في سرد مباشَر، بارد، قليل الصوَر؛ سرد لا يجمّل الواقع، بل يجعل من اللغة مرآةً له، بكلّ ما فيه من حقائق قاسية، وبشاعة أو دناءة، وبكلّ ما فيه من موضوعات إشكالية لا يُقاربها الكتّاب النخبويون عادةً إلّا من السطح، لاعتبارهم أنها مواضيع "غير جديرة بالأدب"، كما تقول عنهم إرنو.
هكذا، ستكتب الفائزة بـ"نوبل" عن الإجهاض وصعوبات مرض آلزهايمر، عن العنف الأُسَري، عن الاغتصاب، عن الرغبة في "الصعود" اجتماعياً والخروج من الفقر إلى الرخاء "البرجوازي". كلّ هذا في سرد يجعل من السيرة الشخصية والعائلية، ومن التحليل السوسيولوجي، أساساً يبني عليه.
ولعلّ لجنة "نوبل" تحيلنا إلى هذه اللغة المتقشّفة وهذه الرؤية الروائية التحليلية حين تشير، في بيان إعلانها إرنو فائزةً بالجائزة، إلى "الشجاعة والدقّة في المعالجة" اللتين ميّزتا مقاربتها لأسئلة "الأصول والاغتراب والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية".
كاتبة عُرفت بنضالها، عملياً وأدبياً، إلى جانب المهمّشين
إلى جانب الهمّ الاجتماعي، يحضر الحب والجنس كثيمتين بارزتين في أعمال إرنو التي تكتب عنهما انطلاقاً من تجاربها الشخصية، ودون إيهام القارئ بأنّ البطلة التي تتحدّث عنها هي امرأة أُخرى غيرها. فبطلات "شغف بسيط" (1992)، و"التيه" (2001)، و"الاحتلال" (2002)، أو "ذاكرة فتاة" (2016)، هنّ جميعاً إرنو نفسها، لكن في لحظات مختلفة من حياتها. والأمر نفسه ينطبق على روايتها الأخيرة، التي تشغل الإعلام الثقافي الفرنسي منذ صدورها هذا الصيف: "الشابّ"، والتي تروي فيها، دون أي حياء "برجوازي"، علاقة غرامية جمعتها بشابّ يصغرها بثلاثين عاماً. موضوعٌ يصعب أن نتخيّل روائية أُخرى، فرنسيةً كانت أو لا، تكتب عنه بهذه المباشرة وبهذا التصالُح.
حضور عربي
بمنحها الجائزة الأدبية الأبرز عالمياً إلى مؤلّفة يرتبط اسمها بقضايا المهمّشين والمهمّشات، وبانتقاد النخب المهيمِنة والثقافات المتقوقعة على ذاتها والمنغلقة على الآخَر، تُعطي لجنة "نوبل" صورةً عن مِزاج تقدّمي هجرتْه في عدد من النسخ السابقة (كمنحها الجائزة للبيروفي اليميني ماريو فارغاس يوسا في 2010، أو لبيتر هندكه في 2019، وهو الذي أيّد ميلوسيفيتش المسؤول عن جرائم حرب في البوسنة)، لكنّها استعادته العام الماضي بتسمية الكاتب التنزاني، "المهاجر" في المملكة المتّحدة، عبد الرزاق قرنح، فائزاً بـ"نوبل".
وإذا كان هذا الأخير، حين إعلانه فائزاً بالجائزة السويدية، مجهولاً أو شبه مجهول في الثقافة العربية (لم تصدر ترجمات لأعماله إلّا أخيراً)، فإن الأمر لا ينطبق على إرنو، التي سبق أن نُقل عددٌ من رواياتها إلى العربية، من بينها: "امرأة" (ترجمة سحر ستّالة، دار الجمل)، و"انظر إلى الأضواء يا حبيبي" (ت: لينا بدر، دار الجمل)، و"لم أخرج من ليلي" (ت: نورا أمين، المشروع القومي للترجمة)، و"مذكّرات فتاة" (ت: مبارك مرابط، دار الجمل)، و"الحدث" (صدرت في ترجمتين: لـ سحر ستّالة عن دار الجمل، ولـ هُدى حسين عن دار ميريت).