عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "الموت بين المجتمع والثقافة" للباحث اللبناني أحمد زين الدين، الذي يضيء ثيمة الموت ومعناه لدى الأمم والشعوب وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات، ومساهمة الموروثَين الإسلامي والمسيحي والفلسفة الإغريقية خلال مراحلها كافة في بناء تصور عن الموت.
يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام تحتوي على أربعة وعشرين فصلًا، ناقش الأول التحديق في الموت وهاجس الحديث عنه، وطقوس الوداع، وطرائق الدفن المتعددة. أما الثاني، فقد تناول مظاهر العبادات المحلية التي تمارَس في المقامات الدينية، وتقوم على تعظيم الأولياء الموتى، والتماس المدد الروحي من زيارتهم، وإقامة الولائم على شرفهم. في حين كُرِّس الثالث للحديث عن العنف الدموي ذي المرجعية الدينية، حيث شهدت أقطار العالم الحديث تفاقم النزاعات الدينية القتالية تحت مسميات عدّة، على رأسها الجهادية والعمل الاستشهادي.
ويسعى الكتاب لمقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، ولرصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانية، مستفيدًا من ثمرة أعمال باحثين عرب، على ندرتهم، وأجانب عايشوا الظواهر الاجتماعية التي تخصّ موضوع الموت وكشفوا عن العادات والسلوكات المتّبعة في هذا الشأن، ولا سيما طقوس الحِداد المقنّنة وطرائق إظهار علامات الجزع والحزن والبكاء على المتوفين من أقارب وأصدقاء.
يضيء الكتاب الموت ومعناه لدى الأمم وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات
ويعتمد المؤلّف على أطروحات جامعية ساهمت في إظهار معطيات ميدانية وجمْعِها وتحليلها واستخلاص العِبر منها، في وصف أشكال وصور وفنون غنائية ومرثيات تراثية محفوظة منذ القدم. ومن هنا، تتأتى أهمية البحث، الذي نظر إلى الموت ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والحضارية من بيئة إلى أخرى، ومن مكانة متوفّى إلى مكانةِ آخَر، ومن ابن بيئته إلى الغريب الذي عاش فيها، وغيرها، وقد ظهر هذا في مقارنة أجراها الكتاب بين مظاهر الموت في المجتمعات الغربية والشرقية، وكيف أنها تنحسر في الغرب عن الفضاء العام إلى المستشفى أو العائلة، بينما تنتشر في الشرق الطقوس الجنائزية والشعائرية المأتمية الكبرى وذات الأبعاد المسرحية.
كذلك يشير إلى أن الموت أكثر الظواهر البيولوجية "ميتافيزيقيةً"، لما يثيره في أذهان الأحياء من تساؤل؛ ونظرًا إلى تباين هؤلاء الأحياء بشدة كان النظر إليه متباينًا بمقدارهم. وقد كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه، ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم.
وينبّه إلى أن إشكالية الموت لا تزال مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة، وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون؛ فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث، طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة، ثم يفترقان بعدها بالموت، وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت، في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء، وفي أجساد قابلة للخطايا، لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد. ثم أرسى فيلون الإسكندري (حوالى عام 20 ق.م) دعائم فكر توفيقي بين اليهودية والفلسفة الإغريقية ولَّد "الأفلاطونية المحدثة" التي تبنّاها آباء الكنيسة الشرقية في ما بعد، فاستُبدلت ثنائية "روح – جسد" باتحادهما، فلم يعد الجسد موضع شبهة بتمثيله عالم الأحاسيس والرغائب أو بكونه قالبًا أرضيًّا لسقوط الروح العلوية، بل غدا الإنسان كُلًّا تتواشج فيه النشاطات البيولوجية بالنفسية، وغدا الموت إيقافًا لعمل الآلة المُنتجة بسبب فساد الأعضاء التي تحرّك الجسد، أما الروح المخلوقة من جوهر رباني فبقيت بلا تغيير يُفقدها ماهيتها.
ومع انحسار التأثير الكنسي في العصور الوسطى تراجعت فكرة الوحدة الجوهرية الأرسطية، بحسب الكتاب، حيث أفادت الكشوفات الطبية باستحالة تصور جسد مستقل تُشعل روحٌ إلهية فيه الحياة، وغدت الروح تشكّل مع الجسد وحدةً غير قابلة للتجزئة، وبات ما يُحدث الموت ليس انفصال الروح عن الجسد بل ما ينتاب الجسد من قصور يؤدي إلى تلاشيهما معًا.