الظلامي، الجارف، الموجع، الفظيع، الوحش، القاتل، الغامق، السحيق، الطاعن، الضحل، الضخم، الزاحف، الرهيب، الأكمد، السيء، المظلم... وعشرات الصفات غيرها، تملأ أعمال الفنانة اللبنانية أدليتا ستيفان، في معرضها "الداكن وعبوره" المقام حالياً في "غاليري جانين ربيز" في بيروت، تكتبها كمخطوطة قديمة، أو كطلاسم وتمائم صوفية بلا فواصل بينها.
في حديث إلى "العربي الجديد"، تقول: "إنها أعمال مستلهمة من دفتر كنت أكتب فيه في فترة شعرتُ ألّا أفكار جديدة لي، فكنت أكتب وأكتب إلى أن وصلتُ إلى جزء بدأت فيه الكتابة بالعربية، وكانت مجرد قائمة من الكلمات التي تصف حالة محددة عاطفية أو ذهنية قاتمة، إنها كلمات مظلمة ومعتمة، لكنني لم أستخدم أبداً كلمة "أسود، بل صفاته التي ترتبط بحالة ذهنية قاتمة ومضطربة".
حين وصلت ستيفان إلى هذا الجزء من الدفتر، بدا وكأنها عثرت على المفتاح للخروج من الحالة التي كانت تمر بها، وكأنها عثرت في صفات الأسود على إلهام جديد يشكّل مصدر هذه الأعمال التي يحتضنها الغاليري حتى 16 شباط/ فبراير المقبل، ولدت الكلمةُ كلمةً أُخرى، وبدا وكأن هناك مصدراً انفتح وبدأت تخرج منه صفات الأسود وتتحول إلى أعمال فنية؛ لوحات أو قطع ثلاثية الأبعاد.
تضيف: "لا شك أن ثمة إشارات ومرجعيات دينية وطقسية في النص، لكني أترك المتلقي يصل إلى هذه النتيجة من دون تدخل كبير مني، إلى جانب أنها صفات تناقض صفات الخير، إنها كلمات من المكان الآخر الذي يخيفنا ونريد البقاء بعيدين عنه حتى إننا لا نريد أن نسميه. أعدّد هنا صفات الداكن والسري والمخفي، وحين نراه نتغير، ينقلب عالمنا رأساً على عقب ويصدمنا".
يقوم عملها على علاقة العقل باللغة والوعي بها والتصور عبرها
تعتمد الفنانة بشكل أساسي على التكرار، فهو ليس اعتباطياً بل مقصود. وعن ذلك تقول: "التكرار إلى جانب اللغة هو أداة من أدوات التعبير لدي، وهذا يحول الأمر إلى طقس بسبب النص وتكراره".
الأعمال كلها بالأبيض والأسود، تقول ستيفان إنها لم تختر ذلك لكي يتصادى مع معاني الخير والشر وحسب، ولكن أيضاً "ليظهر الأسود من دون أن يكون فجاً وقوياً". الأبيض يأخذ المساحة الكبرى ويبدو الأسود طبيعياً ككتابة على صفحة بيضاء. تضيف: "يتوقع من يقرأ عنوان معرضي أن يجد لوحات فحمية، يسيطر عليها السواد، لكنه سيجد أعمالاً فيها الكثير من الشفافية والبياض، وصممتُ المعرض بحيث إن من يدخل إليه يشعر بعالم طيفي كالحلم، وكلما تعمق المتلقي فيه وقرأ النصوص المكتوبة لن يرى البياض بل سيشتبك مع الكلمات، وهذه بدورها ستركّب في مخيلته اللون الأسود أو الداكن، لأنني حرصت ألا أستخدم كلمة أسود واستعضت عنها للتعبير عن اللون بمفردات من قبيل الغامق، الدامس، الكحيل، السحام، الأسخم، الكميت، الداجي، وكلّما قرأ المتلقي أكثر قادته الكلمات إلى تصوّر اللون وإلى الخوف".
ترى ستيفان أن عملها أقرب إلى المفاهيمي؛ حيث يقوم على علاقة العقل باللغة، والوعي بها، والتصور من خلالها. أحياناً نجد عبارات كاملة مثل "هالكون لا محالة"، "يمر الوقت"، "إلى الهلاك"، وأحياناً تكتب فقط "ذباب". تعود الفنانة إلى المعجم وهي تبحث عن كلماتها. تقول: "كنت أفتش في المعجم الفرنسي العربي عن حالات معينة، وفيه تعرفتُ إلى كلمات لم أكن أعرفها من قبل مثل جاثومي".
لا مجال للصدفة في عمل ستيفان الذي تنجزه بالفحم والغرافيت والحبر والقماش والرصاص. توضّح في ختام حديثها إلى "العربي الجديد": "أرى العمل قبل أن أنفذه، وأطبقه كما أراه في رأسي، أعرف من أين أبدأ وأين أنتهي، لكن حدث أنني لم أتمكن من الوصول إلى الصورة التي في ذهني بالضبط. أقترب منها فقط".