ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول/ سبتمبر 2021، وكان من طليعة كتّاب القِسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.
6
المفاجأة أنهم أنصتوا جميعاً إلى الطشّ وهو يشرح فكرته متحمّساً ذات ليلة، بينما كانت تصلهم أصواتُ متشاجرين في غرف الطابق السفلي، وقهقهة أحد سكان الباحة، ونشيشُ مقلاة على النار، وزعيقُ سيارة عابرة.
هم اعتادوا على ظهور أفكار ومشروعات، بعضها يتطاير في اليوم التالي مع ارتفاع شمس النهار حين تتوزّعهم مشاغلهم، وبعضُها يستعاد للسخرية من صاحبها الذي يودّ أن يقفز ويتخطّى ظلّه، أو يمدّ رجليه في العراء أو تحت لحاف قصير حسب صورالمتصوّف.
هم لم يشاهدوا مسرحاً ولا اعتلوا خشبة مسرح منذ أن خُلقوا، وربما منذ أن خُلق الكون، ومع ذلك ضجّوا بالاستحسان، وهتف جمال رفيق الظهيرات:
- "نعم، ولماذا لا نمثّل؟ ولكن ماذا نمثّل؟".
وسأل الميت:
- "ماذا يعني التمثيل؟".
فشرح النمول متظاهراً بالجدية:
- "أن تمثّل يعني أن تتذكّر سنواتكَ التي قضيتها ميتاً وتأتي لنا بأخبار أصحابك الموتى".
وتعالت الضحكات بين ذهول صاحب السؤال، وهرج بقية الحاضرين، ولم يعودوا إلى الصمت إلا حين تنحنح ميرسول وبدأ يتحدّث:
- "فكرة أحمد أوحت لي بشيء أكثر أهمية من هذا العبث، نحن أموات بالفعل ما لم ننهض ونمثّل أنفسنا. دعوني أذكّركم برواية غسان، رجال في الشمس، ألا تلاحظون أن مَن ماتوا في خزّان أبو الخيزران كانوا ثلاثة؟ إذن ماذا كان مصير الباقين؟ الباقون نحن، أنا وأنتم، نحن دخلنا، بعضنا، مثلك يا سيدي النائم، تسلّل سائراً على قدميه بفضل أمانة المهرّب العراقي محمد البهلوان، وبعضنا جاء بإذن زيارة ولم يخرج مثلما فعلتُ أنا شخصياً، وبعضنا كان أكثر حظاً فدخل بجواز سفر ودبّر إقامة عمل مثل صديقينا الطشّ وأبو عواد، ولكن هل حالنا أفضل من الذين ماتوا في خزّان المياه الفارغ؟ ألسنا في الخزّان نفسه حتى هذه الساعة؟ ألا نصلح لمسرحية؟".
بدأت هذه الأدمغة الصغيرة تدرك أن المسرحية تسير بها نحو الهزيمة
هزّ أبو عواد رأسه، وتطلّع المتصوّف إلى المتحدّث، بينما تشاغل النمول بتقليب صفحات كتاب، وقفز الطشّ من مكانه متوتّراً كأن ميرسول سرق شيئاً كان يعُدّه بعناية في رأسه، ثم عاد إلى سريره، وبدأ يحكّ رأسه:
- "اسمعوا يا جماعة، دعونا نتذكّر القصص معاً، أو ليفكّر كلّ واحد منا ويتخيّل قصته، ثم نضع خطوط المسرحية، فكرة أخبار الموتى جيدة، وكذلك فكرة الخزّان، ولكن من أين نأتي بأبو خيزران جديد؟".
ضحك أبو عواد وأطفأ سيجارته في صحن أمامه، والتفت إلى الطشّ:
- "ألم تصادف أكثر من أبو خيزران واحد في مكتب منظمة تحريرك؟ وأنتَ يا جمال، ألم تشعر أن المقاول الذي يسحبكَ منذ ساعات الصباح الأولى من فراشك هو أبو خيزران لعين؟ يا جماعة كلّنا في الخزّان، حتى ونحن نعكف على صف حروف الرصاص في المطابع، أو نكتب قصيدة إلى أمنا نرجوها أن تربط أخانا الصغير إلى زيتونة حتى لا يغادر، بل وحتى وأنتم تحملون البنادق في زواريب بيروت".
وواصل ميرسول حديثه:
- "ألم أقُل لكم... عبثٌ كلّ شيء؟ حتى حافلة الثورة التي تخلّعت عجلاتها وهي ترحل بنا مرّة إلى عمّان، ومرة إلى بيروت، ومرة إلى تشاد، وإلى ما لا يعرف إلا الشيطان وحده والمخصيّ أبو الخيزران، صارت مهزلة. علينا أن نفكر كيف نقفز من النوافذ ولو إلى جحيم الصحراء. ربما إذا روينا قصصنا لن نموت.. دعونا نبدأ".
7
- "هل فكرتم بالشياطين؟".
سؤالٌ ألقاه المتصوّفُ في ذلك اليوم المشهود.
فسأل أكثر من حضر:
- "أي شياطين تعني؟".
هنا بدأ المتصوّف برواية قصتة الهندية، متعلّلاً بأن القصص واحدة في أيّ لغة جاءت، وتحت أي شجرة جرت، ونحو أي مصبّ تدفّقت:
- "يُقال إن الآلهة والشياطين اجتمعوا سوية في مسرح لمشاهدة مسرحية مقدّسة. والمسرح في المعتقدات الهندية القديمة أصله هبةٌ سماوية تفضّلت السماء ووهبتها لعقول البشر الخامدة كي تطلق فيها ولو شرارة. وسواء عرفتم هذا أم لم تعرفوا، المهمّ في القصة أنّ سبب الاهتمام بهذه المسرحية كان لأنها تمثّل بالموسيقى والكلمات والرقص قصة الخلق، خلق السماوات والأرض، وقبل ذلك الآلهة والبشر والشياطين وبقية الشرور التي نعرف ولا نعرف. أي قصة الصراع بين نوعين من القوى الأولية التي لا يعرف أحدٌ حتى الآن من أين جاءت، قوى الخير وقوى الشر التي سرقت مياه الخلق. المهمّ، ما إن بدأت المسرحية، حتى فغرت الشياطين أفواهها وشعرت الآلهة الحاضرة بالغبطة. لماذا؟ لأن الفصل الأول بدأ بظهور قوى الشر، أو الإمبرياليين بالتعبير المعاصر، ولكنها لم تستمتع طويلاً بظهورها. صحيح أنها سرقت مياه الأنهار وساد عالم الصمت والخواء الملائم لها، ولكنْ سرعان ما بدأت تظهر الآلهة الأُخرى، وبدأت تعدّ أسلحتها وتستعدُّ للصراع. لم تكن الشياطين المندهشة آنذاك تعرف النتيجة مثلما نعرفها اليوم، ومثلما تعرفها الآلهة، ولكن مع الفصل الثاني، ومع تحوّل الموسيقى لتعلن ظهور نغمات جديدة على سلالم السماوات والأرض، بدأ الانزعاج يتغلغل في أدمغة الشياطين، وبدأت هذه الأدمغة على صغرها تدرك أن المسرحية إنما تسير بها نحو هزيمتها".
يرمقون نصُب الحرية عن بُعد بتماثيله الشبحية المتناثرة
توقّف المتصوّف ليتناول رشفةً من كأس النبيذ الذي لا يُفارقه، فتدافعت أسئلة سكان الفيلّا.
سأل ميرسول متهكّماً:
- "تتحدّث وكأنك كنتَ هناك، ما أدراك بمشاعر الشياطين؟".
وأجابه الميت:
- "أكيد كان هناك فهو من جنين وأنا أعرفه منذ تلك الأيام".
- "يا جماعة".
هتف الطشّ..
- "دعوه يُكمل قصّته. تعجبني حكاية هزيمة الشياطين، هل كان أبو الخيزران أحد هؤلاء؟".
وتناثرت الضحكات، وصحا حتى النائم الدائم على اصواتهم، وظلّ جمال مأخوذاً تحت أشجارهِ يُتابع حركات المتصوّف، يهمّ بالكلام ثم يتوقّف.
- "اسمعوا".
عاد المتصوّف إلى الحديث:
- "هذه قصة رمزية ولم يأتِ بعدُ أصعب ما فيها. بعد أن أيقن الشياطين أنّ الممثلين على المسرح يصوّرون هزيمتهم، ترافقها أصوات الطبول، بل وحركات أجساد الراقصات المنتشية بقرب تحرير مياه الأنهار، وسقوط اللصوص الكونيّين في الهاوية، انتفضوا زاعقين وهجموا دفعةً واحدة على المسرح، فدبّت الفوضى بين الممثّلين، فبعضهم نالته ضربة على رأسه، وبعضهم مزّقت الشياطين ثيابه، واختبأ العازفون وراء آلاتهم، وتوقّف المرتلون عن الترتيل".
لم تتوقّف المسرحية فقط، بل يمكن القول إن مسرحية أخرى بدأت تحل محلها، تماماً كما يحدث في عالمنا الآن، مسرحية أسيادها المقاولون والمخصيُّون.
تسأل عن أبي الخيزران، نعم كان هناك ولا أشكّ في هذا، ولكنْ دعوني أُكمل. دبّت الفوضى إذن، وارتفع صراخُ الممثّلين واحتجاج الآلهة الطيّبة التي لم تغادر مقاعدها، رغم الهرج الذي ساد المسرح. وهنا حدث الانقلاب في الموقف كما روى صاحب القصة الأصلي.
خيال ابتدعه البؤساء حتى لا يفقدوا الأمل بيوم يؤدّون فيه مسرحياتهم
هرع الإله المعروف باسم أندرا لنجدة المسرحيين وحيداً، وبدأ بضربات صاعقة يطردُ الشياطين عن خشبة المسرح. ويقال إن هذا الإله الذي يرجع أصلُه إلى طبقة العمّال والسادة في وقت واحد معاً، أعاد النظام إلى خشبة المسرح، وطمأن الممثّلين والعازفين وكفكف دموع الراقصات، ثم بسط حمايته على الممثّلين بأن وضع رايته على المسرح. فلم يعد يجرؤ شيطان على الاقتراب منه، واستمرّت هذه الحماية حتى يومنا هذا جيلاً بعد جيل. ولهذا إذا رأيتم مسرحاً ترفرفُ فوقه رايات أندرا فاعرفوا أنه هناك".
وجال المتصوّف بنظره في وجوه الحاضرين الصامتين:
- "والآن ماذا فهمتم؟".
وحين لم يخرج أحدهم من صمته، واصل متأنّياً:
- "أنتم في سبيل كتابة وتمثيل مسرحية، فهل تتوقّعون أن يشاهدكم الشياطين الذين تعرفون، ولا يحطموا المسرح على رؤوسكم، هذا إذا سمحوا لكم أساساً باعتلاء خشبة مسرح؟ من الواضح أنكم تفكّرون برواية للخلق مختلفة عن رواية هؤلاء المُبرطعين في كلّ مسرح ومهرجان وندوة. فهل لدى أحدكم علاقة بأندرا الهندي ليأتي وينقذكم؟ أندرا ليس سوى شخص خرافي، وأشكّ أنه تدخّل وبسط حمايته على المسرحيين. ربما كان شخصاً خيالياً ابتدعه بؤساء حتى لا يفقدوا الأمل في مجيء يوم يستطيعون فيه أداء مسرحياتهم".
8
أبو عواد، خلال كلّ هذا، هو الوحيد الذي كان يقلّب أفكاراً في ذهنه تجري على مسرح آخر. كان مُستلقياً على سريره، مُحدقاً في السقف، ومن بعده بغيوم بيضاء تتّخذ أشكال البطّ البرّي مرّة، ومرة تتخذُ أشكال محاربين بدروع وسيوف لامعةً فوق مياه بحر لا أفق له.
قبل يومين عاد من رحلة سفينته إلى شواطئ البحرين، وهناك هبط مع الهابطين لارتياد البارات، وزار بقايا معبد باربار المقدّس، وسلّم سرّاً الكتب الشيوعية التي طلبها من النمول إلى أصدقائه البحرينيين، ما إن صعدوا إلى السفينة لجلب المأكولات والمياه.
كان فرحهم بها كافياً لكي يشعُر بعظمة هذه المهمّة، فبذل لهم وعداً بأنه خلال بضعة أشهر سيملأ البحرين بالكتب والمنشورات، ويجعل كلّ أكواخ القصب تسهر حول ضوء يجتمع حوله ماركس ورفيقه لينين، والأخت الكبرى روزا لوكسمبورغ، بل وسيطلق المظاهرات في نهار اليوم التالي، ولن يظل هناك صيّاد بحريني بلا صيد، ولا طفل بلا لعبة، ولا امرأة بلا حلية، وبالطبع سيعود السادة ليحكموا بالعدل والرحمة، ولن تتغلّب الشياطين.
هذه فكرة، ولكن الممثّلين سيكونون آخرين، سيكونون بحّارة وفلاحين يسعَون الآن على الشاطئ بوزراتهم المخطّطة وصدورهم العارية، أو يتبوّلون بين التلال الرملية وخلف الآكام، ولن يتمكّنوا من القيام بأدوارهم قبل أن يُجيدوا القراءة والتهام كتبٍ مشروعه الذي ما زال في بدايته.
ربما بين قونية وأزمير أو حلب وحماة كان ينبعث صوت أحجارٍ تطرق بعضها
عند هذه الخاطرة مال أبو عواد ومدَّ يده تحت سريره، وعاد بجهاز التسجيل الذي لا يكاد يفارقه. ضغط زرّ التشغيل، وخفّض الصوت، وألصق الجهاز بوجنته، وأصغى.
في الأيام الماضية كان يُصغي للصوتِ ملتذّاً بفكرة أنه كان هناك، أمّا هذه المرّة فقد بدأ يُصغي بانتباه أكثر، بل ويحاول تمييز الأمكنة: هنا أصواتٌ ألمانية تُثرثر وتبقبق، كما لو أنّ عشرات من أقداح البيرة تفور بأيدي نساء بدينات جالساتٍ تحت مظلّة مقهى رصيف، وهنا أصواتُ أجراس خرافٍ بيضاء وهتاف راع لا بد أنه يسوق قطيعه في ممرٍّ جبَلي على جانب الطريق السريع.
وهذه لا شك أصوات أتراك بعد عبور البوسفور مباشرةً، تحمل معها رائحة الجلود وعرق الحمالين وزعيق أبواق السيارات، وحمرة العجاج الذي سيثور وراءه في اللحظة التي يتحرّك فيها بشاحنته على البرّ الآسيوي، وهنا أصوات نبع خفي ونداءات صياّدين وشقشقة عصافير دُوري ومرور نسيم سريع يلمس وجهه وهو مستلقٍ على حافة دغل، أين؟ ربما بين قونية وأزمير، ربما بين حلب وحماة، فبين هذه وتلك كان ينبعث صوت أحجارٍ يطرق بعضها بعضاً كأن إنساناً بلا ملامح يحاول تشكيل شيء من حجارة الطريق.
وها هي أخيراً أصواتٌ عربية مألوفة في الهزيع الأخير من الليل، أمام حانوت بائع شاي عجوز في بغداد. هنا يتوقف العائدون من البارات المعتمة ويتناولون شايهم وهم يرمقون عن بُعد نصب الحرية بتماثيله الشبحية المتناثرة على رخامة بيضاء هائلة مستطيلة ترتفع عالياً في منتصف الساحة، بينما يساوم بضعةُ سكارى يترنّحون، على الرصيف سائق سيارة أجرة، ونشيج امرأة بعباءة سوداء تفترش الأرض بجوار الحانوت تولول ملتاعة في انتظار ابنتها الغائبة. مشهد يعيد إلى ذاكرته مثلما يرى الرائي زاوية مضاءة فوق خشبة مسرح.
يشير بائع الشاي من دكّته المرتفعة وراء الأباريق السوداء والتماع أكواب الشاي وأصوات الملاعق إلى رجل ملتحٍ قابع على حافة رصيف الشارع، ويزعم بصوتٍ خافت يتخلّله خوفٌ غير مفهوم أنه إنسانٌ عجيب لا ينام أبداً.
يقترب أبو عواد من الرجلَ، يقف بجواره، يتطلّع إلى حيث يتطلّع الرجل، وبعد تردّد يسأله ليقطع شكّاً ساوره بيقين إشارة بائع الشاي العجوز:
- "لماذا لا تنام؟".
فيغمغم الرجلُ وعيناه الواسعتان تحدّقان في الفراغ:
- "وهل هناك مكان للنوم؟".
يفاجئه عمقُ التساؤل الفلسفي الذي يسمعه على غير انتظار من رجل يبدو بلحيته الكثيفة وصفاء نظرته ساكنَ كهف، نصف مجنون أو أبله، إلا أنه لم يكن مُحتالاً، بأي حال من الأحوال، فهذه عادة ولهجة سكان الكهوف حين يهبطون المدن المكتظّة، وتذهلهم الأضواءُ الساقطة على أنصاب الحرية في الساحات، وعيون المارّة حين تنظر إليهم كأنها لا تراهم، وقد رأى أبو عواد الكثيرين منهم في العواصم التي مرّ بها؛ إنهم يبدون مثل طيور هَرِمة لا تستطيع سوى التحديق في الفراغ، وهي تفترش الأرصفة أو تقبع على أطرافها.
هنا، وأمام هذه الزاوية المضاءة، اندلعت الفكرة الثانية: لماذا لا يدرج تسجيلات هذه الرحلة بالذات في سياق نص المسرحية التي يتحدّثون عنها؟ لماذا لا يجد هذا المجنون مكاناً؟ وهذه المرأة الملتاعة التي تولول وتنشج بصمت؟ ولماذا لا يكون أحد الشياطين المانيّاً صاحب حانوت سيارات أطلق شتيمة لم ينسها أبداً، وهو يساومه على سعر شاحنة؟
"شلختي.. فلختي".
هكذا نطقها الألماني، وهكذا علقت بالذاكرة.
ليس مهماً ما قد يكون معناها، فجرسها يكفي للقول إنها كلمات لعينة لا يحسن إطلاقها إلا شيطان، سواء رأى هزيمته في مساومة على سيارة أو في مسرحية هندية.