ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.
ما زال العمالقة يتجوّلون في الغابة ونحن نسمعُ أصواتهم، ونراقب مرورَ أجزاءٍ منهم وهم يعبرون أمام الشقوق. ما زلنا نسمع صرخاتِ الجنادب حين يقعون في أيديهم ويغوصُ في قلوبنا ألمُ العجز عن الحركة وإنقاذ واحد منّا.
وتقولُ أختي وهي تضربُ كفّاً بكفٍ غافلة عن وجودي: "باطلْ... باطلْ يا أبو محمود"، فأشعر بالعجز مرويّاً بكلماتٍ قليلة بينما يبزغ ضوءٌ أمامي ويُنير أبو محمود بوجهه المبتسم ولحيته البيضاء، وأسنانه الدقيقة، لقد تهشّمت الآن، هو الذي لم يكن يُسمَع له صوت. لم يكن الرجلُ جندياً بل شيخٌ كبيرٌ يبدو أنه وقع في قبضة اليومي والمبتذل، ولن أراه بعد اليوم.
ففي عصر ذلك اليوم الذي سمعتُ في مسائهِ أختي تردّد كلماتها برنّةِ آسفةٍ وهي تعدّ العشاء، هربتْ امرأة من زوجها ولا أعرف كيف ولماذا فانطلق الرجال خلفها مُسرعين بسيارة نقل مكدّسين، يتمسّكون بحواجزها الخشبية ويتمايلون بينما تلعب الريحُ بوجوههم، انطلقوا خارج المعسكر على الطرق الترابية التي تقود إلى عالم لم أعرفه بعد.
ويقال إن حواجز الخشب لم تستطع الصمود، فانهارتْ وتمسّك الرجالُ بالحافة بينما سقط أبو محمود منكفئاً على وجههِ، وخلّفته السيارة وراءها، مهشّمَ الأسنان، لم ينهض بعدها أبداً... موتٌ مجاني بلا معنى، وبطولة تافهة.
وهكذا وُلدتْ لفظة الأرملة في المحيط العائلي فأصبح الاسم علماً على امرأةٍ لم أرها إلا لماماً، فحين يُقال الأرملة يصبح معروفاً من يعني القائل، ويبدو أنها أول أرملة في تاريخ معسكر الأقزام هذا، أو أول أرملة في الكون الجديد الذي ستتكاثر أسماؤه، ويتكاثر أمواته من الآن فصاعداً.
باطلْ... إذن كانت نوعاً من التفجُّع، لأن موتاً مثل هذا النوع لا يليق بشيخٍ يحترمه الجميع. ولا أدري ما الذي يربطنا بأبي محمود هذا غير أنه جارٌ عزيز كما يبدو، ولكن الأرملة التي أُعطيت هذا الاسم برزتْ إلى الوجود. هذا كلّ ما في الأمر. وسأتذكرها، وأتذكر أبناءها واحداً واحداً، وهم يسيرون تائهين في الذاكرة، موصوفين بالأدب والطيبة والمسكنة، فهم أولاد الأرملة.
إن لهؤلاء الشيوخ في القصص هيبةٌ خاصّة، ولهم حياةٌ وأسفٌ بعد موتهم كأنهم عماد حياة أو سقوف بيوتٍ تتطاير في الريح إن أصابهم شيء، فأحدهم ما زال موصوفاً بالمجاهد يرقد في مغارة من مغارات الكرمل. وكلّما حاول أحد انتزاع المنديل الأخضر عن وجهه التصق بالوجه من أي جهةٍ جئته، وهكذا لن يعرف أحدٌ من هو وإن كان والدي قد تكهَّن بأنه أحد المجاهدين الأوائل الذين جاؤوا مع الفتح الإسلامي.
وأحدهم حين حملوه في التابوت، أبى التابوتُ أن يسير وعجز الرجالُ عن التحرّك به. إن باب الدار نفسه يردّ الأعزّاء الذاهبين في الحقيقة أحياناً وفي المجاز في أحيان أخرى، في القصص أحياناً وفي الأغاني في أحيانٍ أخرى، ويتمنّى المنشدون أن يردّهم باب الدار، ويتعهّدون بأن يُرضوا الأعزّاء الذين كان موتهم مجرّد غضبٍ وما كان الأمواتُ إلا مغاضبين قرّروا الرحيلَ...
التفجّع لا يصيبنا إلّا على الذين لا نعرفهم، أما الذين نعرفهم فهم يصيبوننا بالصمتِ والندى
إلى أن جاءت الحاجّة برأسها المعمّم بأشرطة ملوّنة، وضربت التابوت بعصاها قائلة: "هيا يا مبروك... امضِ"، فسار التابوت بسهولة، ورضي المبروك أن يغادر وفرح الناس.
ولكن لماذا لم يحرّك أحدٌ من هؤلاء الشيوخ ذاكرةَ صديقنا الجندي التركي أو يوقظه من سباتهِ؟ ولماذا لم يستطع أي منهم إيقاف الطوفان الذي اجتاح القرى، والتهمَ المحاصيل والبيوت؟
إنّهم معنا في غابة الأقزام أقزامٌ مثلنا، يسقطون من حوافِ السيارات المسرعة، يتجشَّأون أو يمازح بعضهم بعضاً كما لو كانوا مثل غيرهم.
يقول أحدهم مخاطباً الحاجَ القطروز:
"سآخذها... وصكّهُ بين حجرين!"
ويضحك الحاج كاشفاً عن أسنان دقيقة ولثّةٍ حمراء بينما يقهقه صاحب الاقتراح بوجهه الشبيه بوجه دجاجة، وتنكمش العجوز في جلستها، وتواري وجهها خجلاً.
إنهم يمرحون بعيداً عن الصمتِ والعبوس المعتاد آخذين جزءاً من رواية لا يدرون عنها شيئاً... ولن يدروا، فإلحاج القطروز وصحبه بلا آنٍ الآن. إنهم موجودون أبديّون لا يتحرّكون خارج تلك الليلة، وأبعد منها قليلاً. يهزّون رؤوسهم أو يضحكون أو يسبّحون أو يتنبّأون.
ويُضاف إلى الموتى ميّتٌ جديد، ولكنّه يتّخذ اسماً هذه المرّة. إنه أبو محمود الذي يختفي مخلّفاً الأرملة والأولاد وعبارة: "باطلْ... باطلْ يا أبو محمود".
كلُّ شيء باطلٌ وقبض الريح. وستخرج أختي المتزوّجة حديثاً من بيت زوجها القريب منّا، وهي تصرخ وتخلع عن رأسها المنديل، فأحسُّ بأن حدثاً وقع ويتعلّق بي تحديداً، وتخرجني هذه الصرخة والركضُ من تجمّع العصافير والفخ الذي نصبته هناك حيث تجتمع مرّة واحدة وإلى الأبد، وتركتُ العصافير والفخ، وأخذتُ طريقي إلى البيت وراء أختي وهي تصرخ... وخلفي النهار الشاسع كلّه.
فقبل أيام كنتُ أراقب أخي الذي اشتعل جسدُه فجأةً، ولم يعد يطيق الجلوس بدون أن تفتح النوافذ والأبواب وترشّ أرض الصالة بالماء، ثم راقبته وهو يصعد إلى سيارة جيب ببيجامته المخطّطة، نحيلاً، يجلس إلى جانب السائق بينما يهمسُ أحد الواقفين متذمّراً لأنه احتلّ مكانه كما يبدو.
وتذهب السيارة ويعود أخي بصرخةِ أختي هذه المرّة، ووقفتُ أمامه في الصالة وهو ممدّدٌ عاري الصدرِ، مغمض العينين، أحدّق في صدره الذي شُقّ بسكين، وخِيط جرحُه الطويل على عجل بخيط غليظ. كان ميتّاً كما فهمتُ فيما بعد... أما في تلك اللحظة فقد كان شبه نائم، قاتم اللون، ينظر إليّ من تحت أجفانه صامتاً صمتاً عجيباً.
وقالت امرأة عنّي: " خذيه... خذيه... بعيداً"
وأخذتني امرأةٌ خارج الصالة إلى حيث لا أدري، وفي أنفي رائحة عطرية نفّاذة، وسأظلّ أتذكّر معها أخي ممّدداً وإلى جانبه على الأرض أمّي تحيط بها نساءٌ يحاولن تهدئتها وهي تهذي وتلوّح بيديها، وتخطّ على الأرض خطوطاً وهمية، وتعيد الكرّة مرّة بعد أُخرى.
وأحاطني أبي بذراعيه، ونحن نسير خلف رجالٍ يحملون التابوت. وكان صوته باكياً وهو يهمس في أذني: "هذا أخوك... هذا أخوك"، ثم يأخذه رجلٌ ويلتحق بهم. لم يكن بحاجةٍ ليقول هذا، فقد كنتُ أدرك كلَّ شيء، وأشمّ الحدث في الهواء نفسه.
أبي نفسه الذي كان يتشبّث به وهو قادمٌ يُحيط به صفٌّ من الرجال المتزاحمين هو الذي كان يبكي. وتقول أمّي: "طلبَ المرحومُ منّا أن نذهب إلى قبرص. وقال له الإنكليزي هناك ستعيشون، ولكن الحاج رفض".
ربما كنتُ الوحيد في الكون الذي انطبع في روحه هذا البكاء إلى الأبد
يا للحسرة الدائمة التي امتدّتْ منها إلينا، فوجدنا أنفسنا نعرفه ونتحسّس وجوده رغم أن اسمه لم يعد يذكر إلّا تورية. فهو المسعد حيناً، وهو حياة المرحوم حيناً آخر، وهو الرجل الحقيقي الذي يحلفون بحياته، وهو الخصب والنمو الذي أخذه موت وتغيّرت بعده الأشياء، فنشأنا في السنين المُمحلة وما زلنا فيها.
سيضاف إلينا أمواتٌ كثيرون، وسيبقى هو الحيّ وحده الذي أراه كثيراً عائداً ذات يوم. وأشعر بنفس الفرحة التي شعرتُ بها حين جاء، فقد أصبحتُ فجأة مُحاطاً باهتمام الصغار من حولي، فأخي هو الذي عاد، ويتجمّع الآن الرجالُ والنساءُ في البيت وأنا أرتفع في الهواء متأرجحاً يدفع الصغار مجتمعين أرجوحتي عالياً عالياً.
"باطلْ... باطلْ" لم أفهم هذه الكلمات، ولكنّني شعرتُ بالأسف الذي قيلتْ به وبامتدادها الطويل، وكأنها الصدى، وشاهدتُ ذلك الطقس الذي ظلّ حيّاً... نساءٌ من أعمارٍ مختلفة، أوضحهنّ القامات الشابة، يدرن في حلقةٍ حول حُفرة في الأرض، ويرتفع عويلهنّ مع ارتفاع الأيدي بالمناديل والحطّات... أنا الذي سمّتني امرأة بالأسبل ربما كنتُ الوحيد في هذا الكون الذي انطبع في روحه هذا البكاء إلى الأبد. وعرفتُ فيما بعد أنهنّ كنّ يبكين فلسطين أو أخي أو كلّ الأموات الغامضين الذين أكلتهم الغيلان في دروب العودة إلى البيت، وكلّ الذين أُصيبوا بالجنون شباباً وشيوخاً، وكلّ القرى التي ضربها الجفافُ والعُقم.
أخذتُ هذا البكاءَ إليّ كما أخذتُ هؤلاء الذين كانوا يتحرّكون ويتحدّثون ويضحكون ويبكون ويصرخون ويضربون كما لو كانوا يجهلون وجودي تماماً، فأخترع هذه المدينة كي ألقاهم بها مجدّداً... ممراتٍ وغرفاً بسقوفٍ واطئة مسوّدة من أثر الدخان ينفذ إليّ فيها الصغير الذي كنته فأحسّ بأنفاسهِ وأنا أكتب، وأشعر به يمزّق ورقة أو يكسر محبرةً أو يتوقف أمامي ناظراً بأسى إلى ما أصبحتُ عليه، ويكون عليّ أن أتحّرك وأخرج إلى هذه المدينة وأطرقُ باباً فيفتح لي وجهٌ أتعرّف فيه على طفلٍ هو أنا، وأنظر حولي مندهشاً حين ينسحب الطفل إلى الداخل صائحاً: "لا أحد بالباب.. إنها الريح فقط".
وأقولُ لنفسي: "أحقاً هي الريح؟"، وأهرعُ وراء الطفل إلى غرفة العائلة، فأجد كلّ شيء في مكانه كما كان. حتى مكاني الذي يشغله الآن طفلٌ لا يراني، مسبلَ العينين كما كنتُ دائماً، وكما أحببتُ أن أكون، أنا الوحيد الذي عرف أن شخصاً دخل من البابِ، ولكنني أخفيتُ سرّه عن الجميع.
لقد أخذتُهم إليّ وبدأتُ أطلقهم واحداً واحداً، هم الذين لم يعرفوني أبداً، عليّ أن ألتقطهم وأرسم كلّاً منهم بكلمة أو كلمتين تاركاً جزءاً كبيراً من غموضهم يحيط بالقارئ كما هو مُحيط بي. ولا أعرف حتى الآن سبب هذه المغامرة... أن أعتني بكلّ هؤلاء وأكتشفهم خارج حبّاتِ الجوز التي اختبأوا فيها، أم أنهم لم يكونوا كذلك وأننّي اخترعتُ لهم هذه الغابة وحكاية العمالقة ليكونوا واضحين تماماً؟
سيفتقدكَ الأخوةُ والوحوشُ والغزلانُ في الوعر، والمياهُ، وكلبُنا السلوقيّ وظلالُ المغيب التي خلّفتها وراءكَ وأنتَ تعود إلى أمّ الزينات ليلاً لتصيبكَ الرصاصاتُ اليهودية، وسيفتقدكَ مجهولون عرفتهم ودفتركَ المليء بالكلماتِ الإنكليزية المكرّرة، والقلّة الذين عرفوكَ لأيامٍ قليلة قبل أن تنزلق من بين أيديهم...
وسيقود هذا الصغيرُ الذي لم تعرفه إخوتهُ إليكَ واحداً واحداً ليعرّفكَ بهم وأنتَ في سكونكَ الطويل، ممدّداً على أرضية الغرفة، قاتماً، نقفُ عند قدميكَ في اللحظة التي تضع فيها أمّي بعصبية بين كفّيكَ المتعانقتين إضمامة من الريحان، هم الذين لم يذكروا اسمكَ أمامهم إلا بعبارة: "حياة المرحوم"، فأدركوا أن ثمة فراغاً مقصوداً في الكلماتِ والنظرات ومسرّات العائلة، فراغاً يُترك دائماً لينبئ بأن الوجود لم يكتمل بعد، ولن يكتمل بعد اليوم إلا بعودتك.
ها هو الصغير الذي عبث بدفتركَ وأسراركَ ولم يُدرك منها شيئاً، يحيطكَ بدوره بالصمت يخفيكَ ليراكَ قادماً في مُقبل الأيّام، وها هي الأخت المولودة ذات صباح شتوي، تلك التي ستبدأ الهذيانَ حين تبلغ السنَّ الذي كنتَ فيه، وتتصوّر كلّ كلمة حنانٍ تقال لها، كأنّما تسمعها منك، فتراكَ حاضراً إلى جانبها في كلّ الوجوه، وها هو سميّكَ الذي اختاروا له اسمكَ لأيام قليلة، فإذا هو يبكي، ويواصل البكاء، ولا يتوقّف إلا حين أعطوه اسماً آخر، وأطلقوا سراحه من هذا الفراغ المقصود، ليقع فيما بعد في فراغ من نوع آخر.
هؤلاء الجدد المولودون في غيابكَ أو بعد موتكَ لم تعرفهم، ولكن كلّ ما فيهم يتنفّس حسرتكَ الدائمة، كأنكَ الميتُ الأول والأخير في الكون، يرونكَ في حجم الفراغ الكبير الذي يثقب الكلمات والنظرات والحياة ويرافق أيامهم.
باطلْ... كلّ شيء باطلٌ... وقبض ريح... ولن يقول أحد باطلْ... باطلْ يا أخي، فالتفجّع وحده لا يصيبنا إلّا على الذين لا نعرفهم. أما الذين نعرفهم فهم يُصيبوننا بالصمتِ والندى.