ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.
أنا الآن أسيرُ في أسطورةٍ، ويتحدث فيّ المئاتُ الذين عرفتهم والذين لم أعرفهم، ويتزاحمون أحياءً وأمواتاً في هذه المدينة الغريبة التي أخلقها، ولا يتّضحون تماماً، فبعضهم يتّخذ شكلَ أشجارٍ غريبة لم تنبتْ إلّا في الطفولة، وبعضهم يتّخذ شكلَ التماثيل الصامتة التي لا نراها إلا في المدنِ التاريخية التي طمرها الطوفانُ أو أحرقتها الحروب. وبعضهم يتحوّل إلى رائحة منتشرة في المكان... رائحة نهر أو جبلٍ أو غابةٍ صغيرة ربّما مررتُ بها يوماً.
وأُصغي إلى تلك الأمكنة التي كنتُ فيها أو كنتُ أحدَ الذين نسَتْهم، وأنتبهُ إلى صوتِ ناي من القصبِ الأخضر بين مروجٍ خضراء، وأنا مختبئ مثل أرنبٍ صغير لا أحد يعرف مكانه ولا أحد ينتمي إليه، أو هو لا ينتمي إلى أحد. تلك كما أعتقد ما كانوا يسمّونها الروحة... أتقع شرقاً أم غرباً؟
لا أحد يعرف، فلا جهات في الطفولة لأنّها جهة واحدة. وأجهد أحياناً لرسم جغرافية المكان، فترتسم في الذهنِ مغاور جبلية أو أودية عميقة، ولا شيء مما تذكره الخرائط أو تهتمّ بتفصيله الموسوعات.
إنّ لنا ــ كما يبدو ــ كوكباً آخر هبطنا منه، ولنا أمّهات أخريات لا تتحدث عنهنّ مذكراتُ الرجالِ المشهورين. وحتى رجالنا الذين يعتقد والدي بعد عشر أو عشرين سنة أنّ الضباع ما زالتْ تأكل جثثهم، لا يبدو أنّ أحداً أدرك لهم وجوداً.
الطفولة جِهةٌ واحدةٌ لذا فلا جِهاتَ فيها
إنّنا مكتفون بمعنى ما من كلّ شيء... ومع ذلك فإنّ طرفاً من العالم يطلّ علينا، ونتحدث عنه ونتناقل أخباره كما لو كان شيئاً معزولاً عنّا.. إلّا حين يترك جرحاً. هكذا كان الحديث عن الصديق البريطاني الذي نصحَ أخي بالرحيل إلى قبرص، ولكن والدي عارض الفكرة... وقادته فكرته إلى طمس حياة كاملة كان يمكن أن تكون مختلفة.
تعلّقُ والدتي حزنها وأسفها على رفض فكرة قبرص بسببٍ أستشفّهُ من لهجتها وهي تقصُّ هذه الحكاية، فلو لم تمُتْ هذه الفكرة في وقتها لظلَّ لها بكرها: أخي الكبير... ولم يقتنصه الموتُ بعد ذلك بخمسِ سنوات. أتراها كانتْ تحسُّ بأنّ مصائرنا كان يمكن أن تختلف لولا هذا الرفض؟ لولا هذه الكلمة يقولها الوالدُ فتقود إلى موتِ الابن الأكبر، وإلى هذا الصمت العائليّ الكثيف الذي لا يمكن اختراقُه إلّا بطفولة استثنائية وليس بطفولة مؤجّلة.
لقد تأجّل كلُّ شيء منذ تلك اللحظة كما يبدو، واللّوم كلّه ينصبّ على الوالد الذي رفض الفرصة... فرصة حياة بكرها، وفرصة الوعود التي لم تكن تعرف لها شكلاً، ومع ذلك كان يمكن أن تنقذها من هذا الحزن الصامت. وأعدُها بيني وبين نفسي بأن أقف على سرِّ الموتِ، وأتجنّب أن يحدث ذلك مرّة أخرى، فالموتُ لا يبدو لي شيئاً مفهوماً. وما دام الأمر كذلك فلا بدّ أن نسترجع أمواتنا يوماً ما. كم هم كثيرون إلى درجة لا يحصيها العدّ.
أنا متأكدٌ من أنّ ذلك الماضي كلّه موجودٌ في مكانٍ ما، فلا أحد يكبر في الماضي؛ الطفلُ يظلّ طفلاً... والشيخُ يظلّ شيخاً... والصبيّةُ تظلُّ صبيّة تماماً كما يحدث في الحكايات التي لا يكبر فيها الناسُ مهما تكرّرتْ... وخاصّة شخصياتها الرئيسية التي لا يسمح لها الراوي بأن تغادر عالمها إلى عالمنا المزدحم بالذبولِ والموت.
تقول أمّي، حين حدثت معركة أم الدّرج، حاصرَ الإنكليزُ الثوّارَ بسببِ خطأ ارتكبه أبو درّة، فقد طلبوا منه عدم المبيت، ولكنّه أصرّ على البقاء بصوته الأخنف وغطرسته التي انتقدتها أمّي كثيراً... وحين أشرقتِ الشمسُ كان الجميع مُحاصَراً. وقال الإنكليز: "اذهبوا واحملوا رجالكم"، وانصرَفوا... وجاؤوا بهم مثل حِزم الحطب على ظهور الجِمَال.
وأتخيّلُ قافلةً من الجِمال وحزماً من البشر/ الحَطب، ولا أستطيع الوصول إلى سبب هذا التفجُّع الذي تبديه أمّي.
"لم يكملْ أخي غير الصفّ السابع... ولكنّه كان ذكيّاً يجيد الإنكليزية"... هكذا تروي أمّي طرفاً من حياة هذا الذي أصبحَ في ما بعد مصدرَ أسفٍ وحسرةٍ دائمة. وأتذكّرُ أنّني كنتُ أهرعُ، أو أنّ آخر كان يهرع إلى الباص المُقبل من حيفا... وأشاهد كلبنا السلوقيّ المسكين يقف على قائمتيه أمام باب الباص ويَضع يديه في أحضانِ رجلٍ ينزلُ من الباص أو من سيّارة ما لا يتّضح منها غير الرَّجلِ الذي يترجّل... والكلب الذي لا يكاد يصبر فيقفز للقائهِ، وتنقطع الحركة، وتختفي الصورة كما لو أن أحداً أطفأ أضواءَ المسرح أو أوقفَ عرض الفيلم.
"وحينما كنتم صغاراً..." تكملُ أمّي: "ذهبتُ مرّة إلى البلد، وتركتكم في البيت برعاية أختكم الكبيرة وجاء الطوقُ والإنكليز، فلم أستطع العودة. وحين عدتُ كان البيتُ مقلوباً؛ الزيتُ مخلوطٌ بالشيد، والدجاج ميتٌ، والطحين خلطوه بالتراب".
ويكملُ أبي: "كان أخي ـــ الله يسهّل عليه ـــ هو السبب، فكم نصحته أن يتخلَّص من بندقيته، ولكنّه كان يصرّ على الاحتفاظ بها. أكيد أنهم رأوه وهو يخرج من البيت ويرميها بين الصبر عندما حدث التطويق.
وسألوني، لمن هذه البندقية؟ فقلتُ: "أنا رجل بالكاد أستطيع أن أبصر فكيف لي أن أمتلك بندقية؟" ولكن صوصة اللئيم قال: "نعرف أنّها ليست لك... دلّنا على صاحبها".
كان صوصة يهودياً في خدمة الإنكليز وهو الذي حقّقَ معي".
لا يبدو لي الموت مفهوماً، وما دام الأمر كذلك فلا بدّ أن نسترجع أمواتنا يوماً ما
ويختلط في حديث والدي المرحُ والإحساسُ بالزهو، إذ لم يستطيعوا أن ينتزعوا منه كلمة عن البندقية، رغم أنّه لم يخف لومه لأخيه بسبب تلك الحادثة... بهذه الطريقة يدخل إلى عالمنا الصامتِ أقرباء، ويكبر الكونُ شيئاً ما، فثمة أشخاص يحضرون بأسمائهم. وأضيف بدوري إلى الجغرافية التي استطعتُ رسمها حتى الآن، وأُحدّد موقع بيت هذا الأخ الذي اختارَ أن يسكن قريباً منّا... في وحشة الجبل، بعيداً عن بيوت أمّ الزينات.
كنّا في البرّيةِ نفسها. وقد انتقلَت معنا هذه البرّيةُ القديمة. إنّ حديثنا عن الآخرين هو حديث عن كائناتٍ أخرى لا تكاد تشاركنا المصير... وإن شاركتنا في بعض الطرقاتِ والمناسبات. وينتقل إليّ إحساسٌ بأنّنا مختلفون ما دمنا نتّخذ من الآخرين موضوعاً ونحكم عليهم وندين أو نبرّئ، فهذا خائنٌ... وهذا جبانٌ... وذاك كان رجلاً.
وتتّخذ أمّي من القصص وسيلةً لملء هذه المساحة من الحياة المؤجَّلة، فأخي يتمّ تعليمه في الصف السابع ولو بالذهابِ إلى قرية أخرى ثم يبدأ العمل في حيفا، وتبدأ سيرته بالتداخل مع سيرة الإنكليزي الذي هو في الحكاية صديقه، والذي يعرض عليه أن ينقله مع أهله إلى قبرص حين بدا أنّ كلّ شيء يسير إلى خراب.
ويرِد اسمُ الإنكليزي الصديق مرّة أخرى حين تروي قصةً حدثت مع الخال المُسلّح دائماً. هكذا يَرد في الحكاية. بندقيته على كتفهِ، فمرّة يظهر في عِداد الرجال الذين ينطلقون مع أبو درّة، ومرّة يظهر جريحاً، يضطرّ إلى الهرب إلى سورية. ولكن تبقى صورته هذه... صورة العائد وحده إلى البلد بعد أنِ احتلَّها اليهود في تلك الليلة. يقول إنّه كان يعرف إنكليزياً فذهب إلى بيته في حيفا وتسوّرَ عليه البيتَ ليلاً بكامل عتاده، فدُهِش الرجل، وفاجأه بالسؤال: "ماذا تفعل هنا؟"
ويطأطِئ رأسه، فقد كان طويلاً، ويجلس إلى الإنكليزي متسائلاً: "وماذا تريدني أن أفعل؟" المقاتل الأخير ربّما في هذه المنطقة المحتلّة... لعلّ هذا ما دار في ذهن الإنكليزي وهو يدخّن غليونه ويتأثّر ربّما لهذه المُخاطَرة غير المحسوبة.
- "ما الذي سيحدث الآن؟"
ويبحث الإنكليزي عن الكلمات المناسِبة التي يمكن أن تصف لهذا القروي المسلّح عمقَ مأساته. إنّه أصبح بلا وطن، وعليه أن يرحل. ويدور في ذهن الإنكليزي قرار الأمم المتحدة وإعلان دولة إسرائيل الذي لم يسمع به الخال، ولم يعرف أنه كان موجوداً أصلا. ويتمتم محاولاً تلخيص وتبسيط اللحظة الراهنة:
- "هذه قضيّة أكبر منك... قضيّة دول. لقد اتفقوا على كلّ شيء ولم يبقَ أمامك إلّا أن ترحل".
أين كنتَ في تلك الليلة؟
كان هذا السؤال هو المحور الذي يدور حوله حديث الذين أجّلوا كلّ شيء، وأعطَوا للمساحة المؤجّلة صيغة الحضور الدائم بتذكّر ما حدث. وتكتشف من رواية كلّ منهم أنّ سنواتٍ طويلة مرّتْ بدون أن يعرف أيّ منهم ماذا كان الآخر يفعل في تلك اللّحظة وكيف تصرّفَ. وها هم يبدأون بتجميع الخيوط، لتسجيل كلّ شيء دفعة واحدة.
أُدرِكُ شيئاً مهمّاً، وهو أنّ أهل أمّ الزينات لم يذهبوا بعيداً
لقد تفرّقوا فجأةً، فكلٌّ منهم صار مسؤولاً عن نفسه بطريقة أو بأُخرى. ولكن من الخيوطِ المتجمّعة أُدرِكُ شيئاً مهمّاً، وهو أنّ أهل أمّ الزينات لم يذهبوا بعيداً، فالوالد يروي أنّه انتقلَ إلى قرية أُخرى. تقولُ أمّي إنّهم ذهبوا إلى الدالية. أمّا لماذا لم يبقوا هناك فلأنّ اليهود أنذرُوا الدروز بأنّه يجب ألّا يبقى أحدٌ من أهل أمّ الزينات بجوارهم.
وتبدأ قصةُ قرية أخرى وانتقالٌ إلى مكان آخر على الطرقاتِ نفسها الممتدّة من أمّ الزينات وإليها، وتظهر صورة غريبة لا أعرف كيف حدثت... صورة طفل صغير يسير بجوار إنسانةٍ ما، والوقتُ ليل، والسماءُ تخترقها جمراتٌ حمراء.
وتعلِّقُ أمّي: "لقد مشيتَ مسافة طويلة بدون شكوى ولا تذمّر".
إنّه أنا، إذن من كان يسيرُ في هذه الصورة بدون أن يعرف مِن أين وإلى أين... وأين كانت نهاية المسير. المهمّ أنّني هنا الآن، وأمّي هنا، وخلفنا مئاتُ التفاصيل الغائمة التي لا تطفو عليها واضحة غير الحسرات. وأشعر بالأمان والزهو. وأكتبُ في ما بعد: "لقد وُلدتُ ماشياً على قدميّ إلى جانب إنسانة مجهولة... أو وُلدتُ لأوّل مرّة سائراً تحت ليلٍ ما والرصاصُ جمرٌ يتتابع في السماء".
تقول أمّي: "مررنا بعين حوض فإذا تنغلُ باليهود، وصرختُ على البنات: اليهود... اليهود". كُنّ قد تسلّقن الأشجار لقطفِ شيءٍ من ثمار التين، فهبطن بسرعة.
وقالت الأخت الكبيرة: "كان الرصاصُ يتطاير تحت قدميّ وأنا أركض بقوّة".
لم تُصَب بالطَّبع... فها هي تقصّ جزءاً من الرواية، ولكنّ أمّي تتذكر كيف أنّها راقبتِ السَّاحة الخالية بين البيوت، وشاهدَتْ هناك في الشمس شابّاً جريحاً واثنين من "الهاغاناه" يجلسان في الظلّ. وكان الشابُّ يتحرّك ويزحف ليصلَ إلى الظلِّ فيرغمه الاثنان على العودة والبقاء في الشمس... كان ينزف وهما يضحكان... ويُشيران إليه وهو يسحب ساقه الجريحة ليتّقي حرارة الشمس.
في أيّ الفصول نحن؟ وفي أيّ الأزمان؟ كلّ شيء يبدو كما لو أنّه كان خارج هذا العالم، حدث يوماً... ويحدث الآن... وسيحدث غداً.