أعذار القارئ

16 اغسطس 2024
ممدوح قشلان/ سورية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فريدريك إنغلز أشار إلى تناقض الروائي بلزاك بين دعمه للملكية في حياته وتنبؤه بنهاية الأرستقراطية في رواياته، مما يثير تساؤلات حول الفصل بين مواقف الكاتب السياسية وأدبه.
- في العصر الحديث، وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي جعلت من الصعب على الكتّاب التهرب من مسؤولية مواقفهم السياسية، مما يضع القارئ في موقف حرج عند محاولة الفصل بين الأدب والسياسة.
- السؤال المطروح: هل يجب على القارئ أن يتجاهل مواقف الكاتب السياسية إذا كانت تتناقض مع القيم الإنسانية التي يعبر عنها في أدبه؟

في رسالة بعث بها فريدريك إنغلز إلى مارغريت هاركنس، وهي روائية إنكليزية مغمورة، قال إنّ الروائي الفرنسي بلزاك سار في أدبه بعكس عواطفه الطبقية، فهو في العمق مناصرٌ ومؤيّد للملكية وللأرستقراطية الحاكمة، ولكنّه في الكتابة الروائية رأى حتمية نهاية هذه الطبقة، كما وجد أنّ ممثّليها لم يعودوا يستحقّون البقاء، في حين كان ممثّلو البرجوازية يتقدّمون للاستيلاء على مسار التاريخ. غالباً ما يُستخدم هذا الرأي الحصيف، في أغراض أُخرى، قد يكون من بينها البحث عن مسوّغات تُخفّف من أحكام القرّاء "القاسية" على بعض الكتّاب الذين يَظهر في حياتهم تناقضٌ خطير بين القول والفعل، بين الموقف السياسي والتعبير الأدبي.

في كلّ المرّات التي يعلن فيها القارئ موقفاً من آراء الكاتب السياسية التي تُناقض أدبه، يُقال له، أو لنا، إنّ علينا أن نفصل بين الأمرين، وإنّ للكاتب الحقّ بأن يُقرأ بحياد تام، وأن نبحث له على الدوام عن الأعذار الكافية التي تسمح له بالتملّص من الموقف، والنجاة من المسؤولية، عن مواقف سياسية تتّسم بالرعونة والجهل أو بالانحياز الأعمى لجهات معروفة بوحشيتها وعدائها للبشر، أو بممارساتها الاستعمارية، أو اليمينية، والأمثلة باتت اليوم لا تُعدّ ولا تُحصى.

حسناً، لم يكن في زمن بلزاك وسائل للتواصل الاجتماعي، لم يكن العالم قرية، بل كان عالماً شاسعاً واسعاً قد يصعب فيه على كاتب يعيش في فرنسا، أو إنكلترا، أن يعرف تفاصيل ما يجري من قِبل سلطات بلاده التي تحتلّ بلداناً أُخرى من ممارسات وحشية. لقد رأى ما يحدث حوله، وقدّم له صورة روائية بارعة، لا مكان فيها للعاطفة، بل لحقيقة الحياة.

مَن المُطالَب بالموقف الواضح الصريح: الكاتب أم القارئ؟

غير أنّ العالم المُعاصر لم يعد فيه متّسع لأيّ محاولة للهروب من المعرفة، والتوسّع في الاطلاع على الأخبار، وقراءة أو مشاهدة ما يحدث: فالصحف والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي كافّة "أضعفت قدرات الزمان والمكان التقليدية على تعزيز الجهل بما يحدث" وحوّلت العالم إلى قرية بالفعل.

كيف يُطلب، إذن، من القارئ أن يكون قادراً على الفصل بين موقف الكاتب السياسي - وفي هذه الحالة فإنّ الكاتب هنا يؤيّد "إسرائيل" ويدافع عنها (هيرتا مولر نموذجاً) - وبين أدبه الذي يُقدّم فيه نماذج روائية أو مسرحية تتّسم بالدفاع عن القيم الكبرى الإنسانية؟

مَن المُطالَب بالموقف الواضح الصريح هنا: الكاتب أم القارئ؟ فإذا تخلّى قارئ ما عن شاعر، أو روائي، يناصر الاستبداد مثلاً، والحصيلة من هذا النوع باتت متوفّرة بكثرة في عالمنا العربي، وفي العالم، أو كاتب يُعلن تأييده لـ"حقّ" القاتل في الدفاع عن النفس (وهو مبدأ سياسي أميركي مُعاصر مخترَع من أجل حماية جرائم "إسرائيل" وحدها) ويتغاضى عن حقوق الضحايا، ويغمض عينيه وقلبه ووجدانه وفكره عن الحقيقة، فهل يجب أن نلوم هذا القارئ؟ أم نلوم الكاتب؟

الأعذار غير موجودة، فكلّ كاتب في هذا العالم يعلم جيّداً ما الذي يجري في بنغلادش وميانمار وما كان يجري في تشيلي والأرجنتين، وهو يعلم أيضاً ماذا جرى في فلسطين، وما الذي يجري في غزّة بالأمس واليوم.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون