كنّا في اجتماع اللجنة التنفيذية لاتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا، وكان هناك أعضاء ومراقبون من ألمانيا ويوغسلافيا ورومانيا وبلغاريا وقبرص. لم يكن المراقبون يشاركون في النقاشات أو الاستفتاءات، لكنهم كانوا يعبّرون عن رأيهم في بعض الأمور الأخرى. وبالتأكيد كانت وظيفة الاتحاد أن ينظر في مشاكل الكُتّاب إلى جانب النظر في ما يجري حول العالم من أحداث سياسية. وكانت مسؤولية الكُتّاب الأعضاء أن يجعلوا الرأي العام في بلادهم ضد الإمبريالية والعنصرية والصهيونية. وهذا يعني أن هذا الاتحاد هو مؤسسة عالمية غير حكومية لكنها مهمّة.
بدأ اجتماع الاتحاد يوم السبت في الثالث عشر من آذار/ مارس عام 1976، وفي اليوم التالي أُجريَت انتخابات الاتحاد، وكان رئيس الاجتماع هو الشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري، وهو أيضاً رئيس اتحاد الكُتّاب العراقيين. وقد حصل في اليوم نفسه على جائزة لوتس. ووفقاً لما قاله، فإن الجواهري يقضي في العراق شهراً أو اثنين من العام وبقية الشهور يقضيها في أوروبا. لم يكن يخلع طاقيته الملونة حتى أثناء الاجتماع.
في ذاك اليوم، جاء شاب قبرصي إلى جواري وقال إنه يعمل كمُرَاقِب في اجتماعات الاتحاد، وقد فرحتُ كثيراً لكونه قبرصيَّاً وعبرّت عن ذلك بمعانقتي له وعرّفته على أصدقائي. ولأن السلام هو غاية اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا فهذا يعني أن الشاب القبرصي يريد السلام أيضاً.
حكى لي عن إقامتهم لحفل شعري لشاعرنا التركي الكبير في القسم اليوناني من قبرص، وقام شعراؤنا بقراءة أشعاره باليونانية. ينبغي أن يكون هذا الشاعر هو ناظم حكمت، لكن الشاب لم يتذكر اسمه. هل من الممكن ألا يتذكر ناظم حكمت؟ فكّرتُ أنه يقصد شاعراً آخر، وقمتُ بذكر أسماء بعض الشعراء له، فقال لي:
- شاعركم الذي أتحدث عنه لم يعد على قيد الحياة، وقضى آخر سنوات حياته في الاتحاد السوفيتي.
قال المندوب الأذربيجاني الذي يجلس بجوارنا:
- إنه ناظم حكمت!
- نعم نعم هو.
اندهشتُ من نسيانه لاسم ناظم. كان الشاب القبرصي يقيم معنا في فندق دار السلام، وكنا نذهب إلى الاجتماعات في نفس الباص ونتحدث في الطريق.
ذات يوم حدث أمر غريب؛ كان صديقي الكاتب الأوزبكي كامل شاهين يتحدث على المنصة، وبمجرد أن ذكر كلمة "صهيونية" انقطعت الكهرباء، وفي هذه الأثناء بدأ الكُتاب يمزحون ويقولون:
- قام الصهاينة بعمل تخريبي.
- أصابع إسرائيلية وراء قطع الكهرباء.
وفي يوم الثلاثاء، كان من المفترض أن تُناقش القرارات التي اتُّخِذَت. ومثل كل يوم، كنا في مكان عقد الاجتماعات، لكن الاجتماع تأخر كثيراً ذاك اليوم. وبعدما شعر الجالسون بالملل بدأوا يخرجون من القاعة لمحاولة فهم أسباب التأخير. لم يُعرف السبب إلا في الساعة الحادية عشرة، حيث سافر يوسف السباعي، الأمين العام لاتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا، إلى مصر، بعد استدعائه فجأة من قبل الرئيس المصري أنور السادات للمشاركة في اجتماع عاجل للحكومة المصرية، نظراً لكون السباعي ضابطاً سابقاً في الجيش المصري وكان وزيراً للثقافة آنذاك.
بدأ اجتماعنا، وعرفنا بعد قليل من الراديو سبب سفر السباعي في الصباح فجأة. كانوا يقولون:
- أبطل الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية الصداقة مع الاتحاد السوفيتي.
وكان من الصعب على يوسف السباعي أن يتفاهم مع مندوب الاتحاد السوفيتي بعدما توترت العلاقات بين البلدين. ومركز اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا كان في القاهرة، وهذا يعني أنه يُدار من العاصمة المصرية، وتوتر العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي سيؤدي بطبيعة الحال إلى إجراء بعض التغييرات في الاتحاد.
المُراقب القبرصي مُخالفاً للصداقة والسلام
كان يوم السابع عشر من آذار هو موعد آخر اجتماع للاتحاد، وفيه التصويت على القرارات الأخيرة.
ركبنا الباص من أمام الفندق لكي نذهب إلى الاجتماع، وكان الشاب القبرصي معنا أيضاً. ولسبب ما لم يسلم عليّ في ذاك الصباح، وناديتُ عليه لكنه تجاهلني. لم أستطع أن أفهم سبب فعله هذا، ولكن بعد أن وصلنا إلى مكان الاجتماع ورأيت المنشورات فوق الطاولة، فهمتُ السبب. كانت الطاولة ممتلئة بالمنشورات والخرائط بالإنجليزية والفرنسية والعربية، وكانت تتحدث عن العداء التاريخي بين العرب والأتراك، وكيف قتل الأتراك اليونانيين في قبرص.
وكانت المنشورات التي كُتبت بالإنجليزية كالتالي: "أنقذوا قبرص. نحن مُعَلِّمون قبرصيون نطالب كل المُعَلِّمين وأهل الأدب في العالم أن يرفعوا أصواتهم في وجه الظلم التي يتعرض له أهل قبرص، ونتمنى أن يستخدم الكُتّاب كل صلاحياتهم من أجل استقلال قبرص. الأماكن التاريخية في قبرص مهددة وهي تحت أيادي الأتراك".
خرج المراقب القبرصي الشاب عن حدود عمله في اجتماع الاتحاد بهذا المنشور، وبدأ بنشر الدعاية المُغرضة ضد الأتراك. وبعد عودتي إلى تركيا، جعلتهم يترجمون المنشور الذي كُتب بالعربية وكان الشاب يوزّعه في الاجتماع. ورأيتُ أنه مجرد تحريض للعرب على الأتراك. أسوأ ما في هذا الموضوع أنه لم يقم بتوزيع المنشورات إلا في اليوم الأخير، لو لم يكن كذلك لكان لدي الوقت الكافي للرد عليه.
أول ما فعلتُه بخصوص هذا الأمر، أنني قلتُ ما حدث للأمين العام لاتحاد الكتاب العراقيين، وأبلغت وزارة الإعلام العراقية، وجُمِعَت كل المنشورات من القاعة. كان رد فعلي حادَّاً، واعتذر لي وزير الإعلام العراقي والأمين العام لاتحاد الكتاب وقالوا إن هذه المنشورات وُزِّعَت في الخفاء، وطلبوا مني ألا تكبر المشكلة أكثر من ذلك. كان من الواضح أنهم يريدون مني ألا أكتب عن هذا الموضوع في الصحافة التركية بعد عودتي إلى بلادي.
وجدتُ في المنشورات المكتوبة بالعربية مقولات حول الإنسانية لألبير كامو وفرانكلين روزفلت وجان جاك روسو ومصطفى كمال أتاتورك والآية الثانية والثلاثين من سورة المائدة.
وكأن بعض اليونانيين لم يقتلوا الأتراك في قبرص أو لم يفعلوا تجاههم أيَّ شيء سيئ، والأتراك هم فقط الذين يقتلونهم بلا سبب!
تضمنت المنشورات المكتوبة بالعربية أجزاء من بعض المقالات المختارة من الصحف المصرية التي تهاجم الأتراك وتساند اليونانيين في قبرص. كما تضمنت جزءاً من مقال نشرته صحيفة "الأخبار" المصرية لعلي أمين عام 1974، يقول فيه: "دخل الجيش التركي إلى قبرص، مثلما دخل الجيش العثماني من قبل إلى مصر وسورية ولبنان وغيرها من البلاد العربية. دخل الأتراك قبرص بشكل وحشي وبكل قسوة، واستولوا على ثلاثة أرباع الجزيرة".
أراد الشاب القبرصي أثناء اجتماعات اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا أن يجعل العرب أعداء للأتراك وأن يقفوا مع اليونانيين، من خلال منشوراته التي أعدها باللغة العربية.
أتصور أن اليونان وتركيا يشبهان بعضهما البعض في أمور كثيرة، وأن الإمبريالية هي التي اشعلت هذه الأزمة بين الجارين.
يقولون إن الرأي العام العالمي يُطالب بإخراج العساكر الأجانب من قبرص. حسناً، وأنا أيضاً أؤيد ذلك، ولكن يجب أن نبدأ أولًا بإخراج العساكر الإنجليز والأمريكان من هناك.
الإمبريالية.. العدو الحقيقي لتركيا واليونان
بعد موت مصطفى كمال أتاتورك بيوم واحد، امتلأت شوارع تركيا ببائعي الشارات التذكارية، وكان البائعون يبكون ويصرخون من أجل أن يشتري منهم الناس. كانت الشارات التذكارية تُباع سريعاً، وكان المحتالون يطبعون هذه الشارات بسرعة وكأنها نقود. هؤلاء لا يحبون أتاتورك ولكن يربحون الأموال من حب الناس لأتاتورك.
أقام نيكوس سامبسون ديكتاتوريته الخاصة في قبرص، وكان ذلك واضحاً للجميع، ولكن لم تفعل إنجلترا أو فرنسا أي شيء بهذا الموضوع. وبالطبع، بعد أن وصل سامبسون إلى الحكم، هرب مكاريوس من البلد. ولو لم يدخل الجيش التركي إلى قبرص لما استطاع مكاريوس العودة إلى قبرص، وكانت الفاشية العسكرية ستستمر في قبرص.
بعد دخول الأتراك إلى قبرص بيومين، بدأ المحتالون بكلِّ تركيا في بيع صور للأبطال الذين دخلوا قبرص. ومثلما استُخدِم حب الشعب لأتاتورك، حدث الأمر نفسه، واستخدم المحتالون القومية التركية ومشاعر الأتراك القومية في كسب الأموال. بدأوا يبيعون صوراً، مثلًا، لجندي تركي يضرب عسكريَّاً يونانيَّاً، وصورة لجندي تركي آخر وهو يمزّق علم اليونان.
وكان أسوأ هذه الصور، هي التي استخدمها الشاب القبرصي في منشوراته المحرضة ضد الأتراك، التي قام بتوزيعها في اجتماعات اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا. وقد ذكر الشاب القبرصي أن مثل هذه الصور يبيعها الأتراك في الشوارع.
هل نحن فقط الذين لدينا من يقومون برسم مثل هذه الصور، ولا يوجد مثلهم في اليونان؟
وهؤلاء الذين وضعوا هذه الصور في المنشورات التي وزّعها الشاب القبرصي، هم أيضاً حمقى مثل الذين رسموا هذه الصور تماماً.
عندما حرّض النظام الأتراك على اليونانيين عام 1955، وقاموا بحرق بيوتهم وأماكن عملهم، قام اليونانيون بمهاجمة بيوت الأتراك في قبرص، وقتلوا منهم أيضاً. وبرأيي، ليس لأي تركي الحق في الحديث إذا تحدث فقط عن الأتراك الذين قُتلوا في قبرص، ولم يتحدث عمّا تعرض له اليونانيون.
نحن واليونان في وضع مؤسف. فرغم أن البلدين تجمعها أشياء مشتركة عديدة، إلا أنهما صارا لعبة للإمبريالية.
* فصل من كتاب "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق" الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" (2021 - 2020) في فرع "الريبورتاج الرحلي المترجم - الرحلة الصحافية"، بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير