ينحي المؤلف أندرو جيه باسيفيتش، الكولونيل المتقاعد من الجيش الأميركي، في كتابه "حرب أميركا من أجل الشرق الأوسط الكبير: تاريخ عسكري"، باللوم على الإدارة الأميركية بسبب سياستها العسكرية في المنطقة العربية خلال العقود الأربعة الأخيرة. ولأنه شاهد من أهلها، فإن كتابه يحمل في مجمله قيماً فكرية تستحق التأمل، لا سيما وأن المؤلف يُعَدّ من القادة العسكريين الأميركيين الأكثر وثوقا والأعلى مصداقية واحتراماً في بلاده.
لا يهمنا هنا عرض ما تضمنه الكتاب من تحليل وتوثيق لخسائر الجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الكبير، بل ما يهمنا هو نقده ونقضه لنظرية بالية عفا عليها الدهر وما تزال الإدارة الأميركية، ممثلة في قياداتها ومؤسستها العسكرية، تعتنقها وهي أن الحلول الأمنية هي الفيصل لإنهاء أية مشكلة بالمنطقة، وأن استخدام القوة المباشرة يغني عن دور الدبلوماسية.
يقرر المؤلف أنه خلال الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1980 لم تخسر الولايات المتحدة جنديا واحدا أثناء أداء خدمته في الشرق الأوسط الكبير، بل كانت جل الخسائر الأميركية في الأرواح في أماكن أخرى. ولكن عقب انتهاء الحرب الباردة حدث انقلاب في الشؤون العسكرية، حيث بدأ تساقط الجنود الأميركيين بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، لم يسقط جندي أميركي واحد خارج هذه المنطقة اعتباراً من عام 1990. وهذا يعني، في عرف المؤلف، أن الإدارة الأميركية أخطأت التقدير، وعليها أن تراجع حساباتها واستراتيجياتها حتى توقف مسلسل الأخطاء الكارثية لإدارتيها السياسية والعسكرية.
اقــرأ أيضاً
لقد شنت الولايات المتحدة العديد من الحروب في دول الشرق الأوسط الكبير، وقامت بحملات عسكرية في البلقان وشرق أفريقيا والخليج العربي وآسيا الوسطى، ولكن هذه الحملات التي استهدفت تحقيق الأمن والاستقرار والحرية والديمقراطية - كما روّجت لها وسائل الإعلام الأميركية - لم تحقق إلا النزر اليسير من غاياتها. كما أن مساعي السلام - التي أعقبت تلك الحملات - أخفقت هي الأخرى في تحقيق السلام في معظم أرجاء المنطقة، وعلى النقيض من ذلك، ساهمت في تعميق كراهية أبناء المنطقة للوجود الأميركي بالمنطقة، وللسياسة الأميركية بوجه عام في الشرق الأوسط. فهل وعت الإدارة الأميركية ذلك؟ للأسف لا كما يقول المؤلف.
قام باسيفيتش بتوضيح العلاقات الخفية بين الحوادث الكبرى التي أحاقت بالجيش الأميركي بالمنطقة، والتي كبدته خسائر كبرى في الأرواح وفي سمعته أيضاً. فثمة علاقة وثيقة تربط بين تفجيرات مقر البحرية الأميركية في بيروت عام 1983 وبين معركة مقديشو بالصومال في عام 1993، وغزو العراق في عام 2003، ثم ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في كل من العراق وسورية وانتشاره بعد ذلك في عدة دول بالمنطقة. فجميع ما حدث من كوارث للجيش الأميركي - في هذه المناطق - ناجم من النظرة الأحادية التي تعامل بها الجيش الأميركي مع كل دولة، وعدم مراعاته لما يربط أبناء هذه الدول جميعا من كراهية دائمة للولايات المتحدة بسبب وقوفها إلى جانب النظم الاستبدادية بالمنطقة وغضها الطرف عن الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وفي الوقت الذي كانت القيادة الأمريكية في البيت الأبيض تعتقد أن أهالي الشرق الأوسط الكبير سيسارعون بالترحيب بالقوات الأميركية على أراضيها كانت المفاجآت المستمرة لها، حيث أجج وجودها بالمنطقة مقاومة شعبية واسعة ضدها، وأدى إلى استحداث أنواع من العنف الشديد في صورة "جهاد متطرف"، حيث اعتبر معظم السكان القوات الأميركية قوات غازية لا حليفة، وهو ما تجلى بوضوح في حوادث تفجير أبراج الخبر في عام 1996، والهجوم على المدمرة الأميركية كول في عام 2000، والقيام بأعمال إرهابية ضد سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998. ولم تثمر الحروب التي شنها الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق شيئا مفيدا لشعوب دول المنطقة، فقد خلّف انسحابها من هاتين الدولتين أنظمة فاشلة وحالة واسعة من الموت والرعب والدمار. ولم يستفد العسكريون الأميركيون من دروس الماضي، فما يزالون يلقون بثقلهم في الصراعات الدائرة بالمنطقة، بما في ذلك الاستخدام الواسع النطاق لعمليات الهجوم بطائرات دون طيار.
ويرى باسيفيتش أن تقدير الخسائر العظيمة التي منيت بها القوات الأميركية يتطلب النظر إلى الكوارث التي وقعت على أنها فصول من حرب لها عنوان واحد. كما أن الأمر بحاجة أيضا إلى تحديد القرارات الخاطئة التي اتخذها عدد من كبار القادة السياسيين والعسكريين ذوي الشأن بتهور تارة وبعدم استطلاع بليغ تارة أخرى، وكذلك تحديد المسؤولين عن الحالة التي وصل إليها الموقف الأميركي الخارجي على المستويين السياسي والعسكري، وتحديد مدى تأثر الولايات المتحدة على المدى البعيد من تلك القرارات.
ويخلص المؤلف إلى أن الدور الخبيث الذي لعبته القوات العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط منذ عهد الرئيس جيمي كارتر في السبعينيات إلى عهد الرئيس الحالي باراك أوباما قد أضعف كثيرا من دور السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهو يؤكد على أن استخدام القوة المميتة الساحقة في القضاء على الإرهابيين أو رؤوس الأنظمة الديكتاتورية لم يجعل هؤلاء يهرولون بعيدا مذعورين، بل على النقيض، أدى إلى الاستياء والفوضى في الشرق الأوسط الكبير.
(كاتب مصري)
اقــرأ أيضاً
لا يهمنا هنا عرض ما تضمنه الكتاب من تحليل وتوثيق لخسائر الجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الكبير، بل ما يهمنا هو نقده ونقضه لنظرية بالية عفا عليها الدهر وما تزال الإدارة الأميركية، ممثلة في قياداتها ومؤسستها العسكرية، تعتنقها وهي أن الحلول الأمنية هي الفيصل لإنهاء أية مشكلة بالمنطقة، وأن استخدام القوة المباشرة يغني عن دور الدبلوماسية.
يقرر المؤلف أنه خلال الفترة الواقعة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وعام 1980 لم تخسر الولايات المتحدة جنديا واحدا أثناء أداء خدمته في الشرق الأوسط الكبير، بل كانت جل الخسائر الأميركية في الأرواح في أماكن أخرى. ولكن عقب انتهاء الحرب الباردة حدث انقلاب في الشؤون العسكرية، حيث بدأ تساقط الجنود الأميركيين بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، لم يسقط جندي أميركي واحد خارج هذه المنطقة اعتباراً من عام 1990. وهذا يعني، في عرف المؤلف، أن الإدارة الأميركية أخطأت التقدير، وعليها أن تراجع حساباتها واستراتيجياتها حتى توقف مسلسل الأخطاء الكارثية لإدارتيها السياسية والعسكرية.
لقد شنت الولايات المتحدة العديد من الحروب في دول الشرق الأوسط الكبير، وقامت بحملات عسكرية في البلقان وشرق أفريقيا والخليج العربي وآسيا الوسطى، ولكن هذه الحملات التي استهدفت تحقيق الأمن والاستقرار والحرية والديمقراطية - كما روّجت لها وسائل الإعلام الأميركية - لم تحقق إلا النزر اليسير من غاياتها. كما أن مساعي السلام - التي أعقبت تلك الحملات - أخفقت هي الأخرى في تحقيق السلام في معظم أرجاء المنطقة، وعلى النقيض من ذلك، ساهمت في تعميق كراهية أبناء المنطقة للوجود الأميركي بالمنطقة، وللسياسة الأميركية بوجه عام في الشرق الأوسط. فهل وعت الإدارة الأميركية ذلك؟ للأسف لا كما يقول المؤلف.
قام باسيفيتش بتوضيح العلاقات الخفية بين الحوادث الكبرى التي أحاقت بالجيش الأميركي بالمنطقة، والتي كبدته خسائر كبرى في الأرواح وفي سمعته أيضاً. فثمة علاقة وثيقة تربط بين تفجيرات مقر البحرية الأميركية في بيروت عام 1983 وبين معركة مقديشو بالصومال في عام 1993، وغزو العراق في عام 2003، ثم ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في كل من العراق وسورية وانتشاره بعد ذلك في عدة دول بالمنطقة. فجميع ما حدث من كوارث للجيش الأميركي - في هذه المناطق - ناجم من النظرة الأحادية التي تعامل بها الجيش الأميركي مع كل دولة، وعدم مراعاته لما يربط أبناء هذه الدول جميعا من كراهية دائمة للولايات المتحدة بسبب وقوفها إلى جانب النظم الاستبدادية بالمنطقة وغضها الطرف عن الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
وفي الوقت الذي كانت القيادة الأمريكية في البيت الأبيض تعتقد أن أهالي الشرق الأوسط الكبير سيسارعون بالترحيب بالقوات الأميركية على أراضيها كانت المفاجآت المستمرة لها، حيث أجج وجودها بالمنطقة مقاومة شعبية واسعة ضدها، وأدى إلى استحداث أنواع من العنف الشديد في صورة "جهاد متطرف"، حيث اعتبر معظم السكان القوات الأميركية قوات غازية لا حليفة، وهو ما تجلى بوضوح في حوادث تفجير أبراج الخبر في عام 1996، والهجوم على المدمرة الأميركية كول في عام 2000، والقيام بأعمال إرهابية ضد سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998. ولم تثمر الحروب التي شنها الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق شيئا مفيدا لشعوب دول المنطقة، فقد خلّف انسحابها من هاتين الدولتين أنظمة فاشلة وحالة واسعة من الموت والرعب والدمار. ولم يستفد العسكريون الأميركيون من دروس الماضي، فما يزالون يلقون بثقلهم في الصراعات الدائرة بالمنطقة، بما في ذلك الاستخدام الواسع النطاق لعمليات الهجوم بطائرات دون طيار.
ويرى باسيفيتش أن تقدير الخسائر العظيمة التي منيت بها القوات الأميركية يتطلب النظر إلى الكوارث التي وقعت على أنها فصول من حرب لها عنوان واحد. كما أن الأمر بحاجة أيضا إلى تحديد القرارات الخاطئة التي اتخذها عدد من كبار القادة السياسيين والعسكريين ذوي الشأن بتهور تارة وبعدم استطلاع بليغ تارة أخرى، وكذلك تحديد المسؤولين عن الحالة التي وصل إليها الموقف الأميركي الخارجي على المستويين السياسي والعسكري، وتحديد مدى تأثر الولايات المتحدة على المدى البعيد من تلك القرارات.
ويخلص المؤلف إلى أن الدور الخبيث الذي لعبته القوات العسكرية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط منذ عهد الرئيس جيمي كارتر في السبعينيات إلى عهد الرئيس الحالي باراك أوباما قد أضعف كثيرا من دور السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهو يؤكد على أن استخدام القوة المميتة الساحقة في القضاء على الإرهابيين أو رؤوس الأنظمة الديكتاتورية لم يجعل هؤلاء يهرولون بعيدا مذعورين، بل على النقيض، أدى إلى الاستياء والفوضى في الشرق الأوسط الكبير.
(كاتب مصري)