أصبح شائعاً في العقود القليلة الماضية أن نسمع أنّ البطولة الفردية لم تعُد موجودة. وأخذ الأدب، والرواية على وجه التحديد هذا المنحى، وخصوصاً الأدب الوجودي حيث تسيطر مفاهيم من قَبيل عدمية وعبثية الحياة وضعف الفرد وهشاشته أمام معطيات الأقدار العارمة التي تواجهه.
انتشرت هذه المفاهيم في الأدب الغربي، وانتقلت إلى الأدب العربي، واتّخذ الشعرُ العربي الحديث هذا المنحى، فأصبح صوتُ الشاعر صوتَ إنسان مضعضع، إن لم نقل مهزوماً، يحاول أن يُلقي بمحتويات قلبه المكلوم في غالب الأحيان على الصفحة كنوع من العلاج النفسي أو إثبات الوجود بلاغياً، أو اكتشاف الكينونة لغةً وصدىً للنفس المتسائلة والمليئة بأصداء الوجود والتجارب. وطبعاً لا جُرمَ في أيّ من ذلك، فالوجود حمْلٌ لا بدّ من تصفية الحسابات معه فنّياً.
ولنُسمِّ هذه الظواهر، والعصر الذي تنتمي إليه، عصر الميوعة والبلادة الإنسانية أو الحيوانية، إذ لم يعُد هناك شيء يستحقُّ الكفاح من أجله. لكنّ الحروب والمآسي تأتي بأبطال حقيقيّين وتزعزع رتابة وعبثية الوجود، فالحياة أسمى من أن تكون عبثاً حين تكون هي نفسُها على المحكّ. والحقُّ والباطل، والخير والشرّ، والبطولة والجبن، وشبيهات هذه الثنائيات أحياناً واضحة جدّاً، ولا داعي لتمييعها بجعلها نسبية. هي تحتاجُ إلى أبطالٍ حقيقيّين ليَسموا إلى ماهيتها. وهنا أحياناً يأتي الأبطال.
وهؤلاء بشرٌ عاديون، لكنّهم بوزن جبال، يعيشون الألم ويعبّرون عنه، ويَسمون بذواتهم من أجل خدمة الآخرين، ومن أجل إيصال صوتهم المخنوق إلى عوالم تعجّ بالظلم، وتُعلي من أجل شأن المجرمين.
يودّ لو يوقظ العتمة في عيون العالَمين ليروا ويوقفوا الموت في غزّة
وهنا، يستحقُّ هذا الرجل العظيم، وائل الدحدوح، مراسل "الجزيرة" في غزّة، وآلاف آخرين من الأطبّاء والصحافيّين، والمعلّمين، وكثيرٌ من سائقي الحمير والأحصنة، وغيرهم ممّن يتقاسمون كسرة خبز مع طفلٍ جائع، ويضمّون اليتامى إلى قلوبهم في وقتٍ يتكدّسُ الموتُ عنوةً على ظهورهم ويهزّ بُنى خيالاتهم، يستحقّ كلّ هؤلاء آيات خاصّة بهم من التقدير والمحبّة.
يستحقُّ هذا المجتمع المكلوم والمنكوب والمظلوم سمة البطولة، والبطولة التي تنحني لها الجبال احتراماً وعطفاً. هؤلاء يستمرّون يوماً بعد يومٍ، بينما تتدافع وتتراكم وتتحلّل المشاعر في أجسادهم على وقْع الموت والجراح التي تتساقط على رؤوسهم وتُفرض عليهم بلا توقُّف، في الحياة التي تتقطّع حبالها أمام أعينهم. يستمرّون.
وائل الدحدوح هو وجهٌ لهؤلاء جميعاً، وجهٌ ودودٌ حاضرٌ بكلّ معنى الكلمة، وصوتٌ كوني إنساني فلسطيني وغزّي وعربي وإسلامي، وصوتٌ من أصوات هذا الزمان، وهذا الكون الذي يهجر الفلسطينيّين لعذاباتهم وآلامهم. بينما يفقد الرجلُ العظيم كثيراً من أبناء وبنات أسرته، الزوجة وولدَين وبنت وحفيدة، يقف أمام الكاميرا ليُخبرنا عن آخر مآسي غزّة. "دائماً الأوضاع في قطاع غزّة متفجّرة"... يُصلّي على عائلته، ويؤبّن ابنه البار بوالده، ويبقى الصوتُ يدوّي في خيالاتنا جميعاً، صوتُ هؤلاء المظلومين، وصورهم التي سترسم ملامح قلوبنا لأجيال. وجهه مغتسلٌ بالدموع والحسرات، وعيناه تودّان لو توقظان العتمة في عيون العالَمين جميعاً ليروا ويوقفوا الموت الذي يفتكّ بكلّ شيء في غزّة. أوتي الحكمةَ هذا الرجل، وفصولاً كثيرة من فصول الخطاب.
البطولة ليست هوليوودية، فتلك بطولة الاستعراضات والخيال الذي نادراً ما يخدم الإنسانية الحقّة. البطولة هي لهؤلاء؛ أبناء وبنات غزّة، الأموات ومن سوف يتبقّى منهم. سيكونُ هناك أناسٌ أبطال، وهُم أبطال ليس بالمعنى الفجّ أو برغبة في الذات من خلال مأساة لذلك، بل لأنّهم يتمسّكون بالمعنى، بجوهر أن تكون إنساناً وتحفظ إنسانيتك إلى أقصى حدود أمام الظلم والقمع وجبروت القوّة الأعمى، وبمعنى أن تكون صوت الجراح والموت والفقْد. هؤلاء قلوبهم أسراب من الأسى والآلام، يترفّعون عليها من أجل قضيتهم، قضية الإنسان والقلب الفلسطيني النازف، وهي فلسطين المكلومة والحزينة والوحيدة.
وائل الدحدوح وكثيرون من أبناء غزّة فَرضت عليهم الظروف أن يعتلوا قمم الجبال فاعتلوها راضين مطمئنّين أنّه لن "يكون في ملك الله إلّا ما أراد". هذا ليس استسلاماً للقدر، هذا تفاعلٌ حكيم مع آخر ما فيه. إنّهم يذكروننا بينما يحملون بأنفسهم الهشّة وملامحهم اليقظة إلى أعلى سماوات الوجود، حيث الحقّ قلبٌ يشعر والروحُ مرآة ترى، بأنّنا في كون ما زال الحبُّ سيّدَه، وهؤلاء هُم سادة الحبّ، ووجوه الحياة الفانية.
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن