"أن تقرأ هرتزل في بيروت": سرقة مركز أبحاث منظمة التحرير ثم اختفاؤه

08 أكتوبر 2024
كنز معرفي يشكّل جزءاً مهمّاً من الذاكرة الوطنية الفلسطينية
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتناول الكتاب تاريخ "مركز الأبحاث" التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، تأسيسه في بيروت عام 1965، وسرقة مكتبته وأرشيفه خلال اجتياح 1982 ونقلها إلى القدس.
- يسلط الضوء على منشورات المركز التي تهدف لتعريف القارئ العربي بالعدو الإسرائيلي، وتتناول مواضيع مثل الاستيطان الصهيوني والتلمود، مع التركيز على رفض معاداة السامية وتعزيز المساواة.
- يستعرض تفاصيل سرقة الأرشيف والجهود لاستعادته، وصفقة التبادل في 1983، مع بقاء مصير الأرشيف مجهولاً حتى اليوم.

أن يقرأ المرء كتاباً ثيمته الأساسية سرقة مكتبة "مركز الأبحاث" التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية أثناء اجتياح بيروت في العام 1982 من قبل الجيش الإسرائيلي، وصُور حرب الإبادة على غزة والعدوان على لبنان على يد الجيش نفسه تتدفّق على الشاشات أمامه، لهو أمر مربك.

في كتابه "أن تقرأ هرتزل في بيروت: جهد منظمة التحرير لمعرفة العدو" الصادر حديثاً عن "منشورات جامعة برنستون"، والذي قضى عشر سنوات يعدّ له، يأخذنا الباحث والأستاذ الجامعي الأميركي اليهودي جوناثان مارك غريبتز في رحلة تمتدّ لحوالي نصف قرن، منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية مركزاً للأبحاث تابعاً لها، سُمّي ببساطة "مركز الأبحاث"، لإعادة تأسيسه في رام الله في العقد الماضي مروراً بأهمّ حدث طبع حياة هذا المركز: اجتياح بيروت في العام 1982 وسرقة مكتبته وأرشيفه ونقلها إلى القدس المحتلّة. 

ولمن لا يعرف تاريخ "مركز الأبحاث" يشكّل الكتاب مرجعاً مهمّاً، يشرح تفاصيل تأسيسه والعمل فيه، وسرقته ومن ثم استعادة الأرشيف وفقدانه من جديد. قابل غريبتز مجموعة من المعنيّين، كان أبرزهم آخر مدير للمركز في سنواته البيروتية صبري جريس، الذي لا يزال يعيش في قرية فسوطة المحتلّة في الجليل الأعلى. كذلك التقى بالباحثين فيه عنان العامري وسميح شبيب (الذي ترأّس أيضاً المركز في رام الله قبل وفاته)، ومؤسس "مركز الدراسات الفلسطينية" وليد الخالدي، والراحل صادق جلال العظم وغيرهم. بالإضافة إلى الاطّلاع على جزء كبير من منشورات المركز بالعربية والإنكليزية، وأرشيف "المكتبة الوطنية الإسرائيلية"، و"الأرشيف الوطني الإسرائيلي"، ووثائق من أرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلي أُزيلت عنها السرّية، والأرشيف الخاص لعدد من الباحثين والمؤرّخين.

كانت غاية تأسيس المركز التعلّم والتعرّف على عقلية العدو

يشرح الكتاب بالتفصيل كيف جرى تأسيس "مركز الأبحاث" وكلّ ما سبقه من محاولات قبل إطلاقه في العام 1965 على يد فايز الصايغ. ويخصص جزءاً كبيراً للحديث عن الكتب والمراجع التي كانت موجودة في المركز، والمنشورات التي أطلقها. مراجع بالإنكليزية والعبرية، بعضها قديم جدّاً، ومنها ما كان نادراً. 

في جزئه الأول، يُعالج كتاب غريبتز نشأة "مركز الأبحاث" والسعي لدى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري كي يكون للمنظمة جهاز بحثي مركزه بيروت. وقد نوقش الموضوع بشكل مستفاض في أول اجتماع للجنة التنفيذية للمنظمة في العام 1964 من دون التوصل إلى اتفاق حول ماهية وتفاصيل عمل هذا الجهاز. في الوقت نفسه، كانت بيروت شهدت في العام 1963 ولادة "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" على يد قسطنطين زريق ووليد الخالدي وبرهان دجاني. مؤسسة سيبقى اللغط بينها وبين "مركز الأبحاث" في الأدبيات الإسرائيلية، حتى الاستخبارية منها، مستمراً لعقود. حاول الشقيري إقناع القائمين على المؤسسة بضمها إلى منظمة التحرير من دون جدوى.

يتابع كتاب غريبتز فيشرح كيف لجأ الشقيري إلى فايز الصايغ الذي أسس المركز وترأّسه عاماً، قبل أن يحل مكانه شقيقه الأصغر أنيس الذي بقي في منصبه حتى عام 1977 واستقال وفق غريبتز بسبب التوتر الذي شاب علاقته بياسر عرفات. وافق الشاعر محمود درويش على استلام دفة القيادة لفترة مؤقّتة، فأدار شؤون المركز عاماً كاملاً. تولّى بعده صبري جريس المهمة حتى الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982 وسرقة المركز من قبل الجيش الإسرائيلي. 

من اجتياح بيروت - القسم الثقافي
بيروت تحت القصف إبان الاجتياح الإسرائيلي، 30 تموز/ يوليو 1982 (Getty)

يظهر جليّاً من الكتاب إعجاب غريبتز بجريس الذي التقاه حيث لا يزال يعيش في فسوطة. يخصص له فصلاً كاملاً، يخبرنا فيه عن مسيرته ودراسته وممارسته المحاماة والكتابة بالعبرية والملاحقة الأمنية قبل الانتقال خارج فلسطين، وعمله في "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" قبل الانتقال إلى "مركز الأبحاث".

كذلك، يُخصّص فصلاً من فصول الجزء الأول ليُخبرنا عن تركيبة المركز وجوّ العمل الصارم تحت إدارة أنيس الصايغ، والتنوّع السياسي للعاملين فيه، فلم يكن الجميع من المنتسبين لحركة فتح أو منظّمة التحرير، ومن جنسيات متنوّعة. وأصبح المركز عشية الحرب اللبنانية ملتقى ثقافياً ذائع الصيت في بيروت، منشوراته تشكّل جزءاً أساسياً من الجو الفكري في لبنان والعالم العربي. وكان العاملون في المركز يعتبرون عملهم، وفق الباحثة عنان العامري، مهمّاً وتأثيره كبيراً. 

بالعودة إلى العلاقة بين "مركز الأبحاث" و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، يخبرنا غريبتز أنّ القائمين على المركزين اتفقوا على عدم وجود تعارض بين عملهما في مدينة واحدة وعلى بعد مئات الأمتار بعضهما من بعض. صبري جريس يشكل العنصر المشترك بينهما، إذ عمل في المؤسسة بعد وصوله إلى بيروت في العام 1970 بصفة باحث، قبل أن ينتقل إلى المركز بعد أربع سنوات ويترأسه لاحقاً. كان وليد الخالدي يرى المركز مؤسسةً ترويجيةً، "فكل حركة تحرر وطني تحتاج مركزاً للأبحاث"، فيما جريس يعتبر "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" أرستقراطية ونخبوية. ويستنتج غريبتز أنّ الجمهور المستهدف من قبل "مركز الأبحاث" كان العالم العربي، فيما جمهور المؤسسة "كان أبعد من ذلك" ويقصد الجمهور غير العربي. 

أُفرج عن أرشيف المركز و4 آلاف أسير مقابل ستّة جنود

في جزئه الثاني، يُخصّص الباحث الفصول السبعة لسبعة كُتب خصّصها المركز "لدراسة العدو لمساعدة القارئ العربي على التعرف عليه أكثر". ويحاول غريبتز من خلال ذلك أن يفهم سبب اختيار هذه الكتب بالتحديد لترجمتها ونشرها، وما هي وجهة نظر المركز والقائمين عليه للتعلّم والتعرّف على العدو. 

الكتُب هي: "الاستيطان الصهيوني في فلسطين" (1965) لفايز الصايغ، و"الفكرة الصهيونية: النصوص الأساسية"  (1970) لأنيس الصايغ، و"التلمود والصهيونية" (1970) لأسعد رزوق، و"دليل القضية الفلسطينية" (1969) لإبراهيم العبد، و"المرأة اليهودية في فلسطين المحتلّة" (1968) لأديب قعوار، و"يهود الدول العربية" (1971) لعلي إبراهيم عبدو وخيرية قاسمية، و"دور الإرهاب الصهيوني في نشوء إسرائيل" (1969) لبسام بشوتي ونشره المركز بالإنكليزية. 

عبر قراءة ودراسة وتحليل هذه المنشورات الصادرة عن المركز، يحاول غريبتز، الذي يقرأ ويكتب بالعربية والعبرية، أن يفهم الأسباب الكامنة وراء نشر هذه الكتب بالتحديد، ويخلص إلى أنّ المركز والقائمين عليه أرادوا، إلى جانب تعريف القارئ العربي والفلسطيني بالعدو، إيصال رسائل إضافية إلى هذا القارئ. فكتاب "التلمود والصهيونية" مثلاً هدفُه تفسير ما هو التلمود واختلافه عن الصهيونية والتأكيد أنّ رفض معاداة السامية يجب أن يكون ركناً أساسياً في حركة التحرر الفلسطينية. أما "المرأة اليهودية في فلسطين المحتلّة" فيشدّد على مبدأ المساواة بين الرجال والنساء واستغلال طاقات النساء العربيات كما يحصل على المقلب الآخر كي لا تذهب إمكاناتهنّ هدراً، فيما يُعالج كتاب "يهود الدول العربية" قضية العنصرية وضرورة نبذها. 

يُشبه الجزء الثالث من الكتاب رواية بوليسية. يتحدّث بالتفاصيل عن كيف نُهب المركز من قبل جنود الجيش الإسرائيلي ووُضع كلّ ما كان بداخله في صناديق ونُقل إلى القدس. ومن ثم يخبرنا عن جهود منظمة التحرير والمثقّفين الفلسطينيّين طيلة عام لتأليب الرأي العام العالمي وإجبار "إسرائيل" على إعادته. وهذا ما حصل في الرابع والعشرين من  تشرين الثاني/ نوفمبر 1983 في صفقة تبادل بين منظّمة التحرير و"إسرائيل" أطلقت بموجبها منظّمة التحرير ستّة جنود إسرائيليين أَسرَتهم في العام السابق، مقابل إفراج "إسرائيل" عن أربعة آلاف أسير وأرشيف "مركز الأبحاث". نقل الأسرى والأرشيف إلى الجزائر عبر وساطة فرنسية.

أثناء إقامته في القدس عامين، قام غريبتز بتحقيق شبه استقصائي وبحث عن أي وثيقة تكشف النقاب عن أين حلّ الأرشيف في القدس، وكيف استُعمل لعام ونصف عام. هل جرت دراسته؟ هل نُسخ؟ ولاحق كلّ خيوط الأدلّة ليكتشف أنّ بعض الكتب من مكتبة المركز موجودة في بيوت جنود خدموا في الجيش في العام 1982، وشاركوا في اجتياح بيروت، إلى جانب حوالي سبعين كتاباً في "المكتبة الوطنية الإسرائيلية" وُجدت في عدد من الصناديق عند بدء أتمتة محتوياتها، ولا يعرف أي من الباحثين الحاليين في المكتبة كيف وصلت إليها، بسبب عدم وجود إيصال بالتبرُّع. 

لكن أين الأرشيف اليوم؟ لا أحد يعرف. صبري جريس مقتنع أنّه في الجزائر وقد رأي بعينيه الصناديق قبل عقود، من دون أن يفتحها ويتأكّد من أنّ المحتويات لم تطاولها الرطوبة او تعرضت لأضرار، في مخزن تابع للجيش الجزائري، وفق ما أخبر غريبتز. أما سميح شبيب فقال للكاتب إنّها في الجزائر لأنّ مقرّ المركز الجديد صغير جدّاً ولا يمكن أن يسعها. 

لا يوجد، وفق غريبتز، أي إشارة إلى مكتبة "مركز الأبحاث" في الأرشيف الجزائري تبعاً لباحثين غربيّين استخدموا هذا الأرشيف في العقود الماضية وجرّبوا مساعدة الكاتب على إيجاد دليل يوصله إليه، أي ببساطة لا إمكانية اليوم لمعرفة ما إذا جرى إنقاذ هذا الكنز المعرفي الذي يشكّل جزءاً مهمّاً من الذاكرة الوطنية الفلسطينية.
 

المساهمون