إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
فلسطين قضية العرب والمسلمين منذ اجتاحتها العصابات الصهيونية عام 1948، وسيطرت على أجزاء من أرضها. منذ ذلك الحين، وقبله أيضاً، كان للشعوب العربية دورٌ في مقاومة هذا الكيان المُحتلّ في نواحٍ عديدة: عسكرية وثقافية ورياضية وتاريخية. وبما أنّ الثقافة في أحد تعريفاتها "هي المعرفة التي تُؤخَذ عن طريق الإخبار والتلقّي والاستنباط"، فالتاريخ جزء أصيل من هذه الثقافة التي يجب أن تُستخدم كأداة للتحرُّر.
من يُتابع التغطيات عن غزّة وعموم فلسطين في هذه الأيام، يجد أنّ التاريخ يُغطّي جزءاً كبيراً من هذه الأحداث خصوصاً في العالَم الغربي. فالنقاشات الدائرة بين الفريقين حول "أحقّية الصهاينة" بأرض فلسطين من واجب المثقّف العربي نقْضُها، وهو دور أصيل للمثقّف. فالسياقات السياسية، اليوم، تغيّرت عمّا كانت عليه قبل عشرين سنة، فصرنا نجد دولاً عربية وخليجية نحَت منحى التطبيع، وصار انتقاد الكيان الصهيوني غير مرحّب به في هذه الدول إن لم يكن مُجرّماً.
مثل هذه النقاشات التاريخية حول الحقّ التاريخي للفلسطينيّين والعرب في أرضهم مُدعّمة بالأدلّة والوثائق والمنطق، ومع ذلك فإن إبراز وجهات النظر المؤيّدة لهذا الحقّ، من قِبل مؤرّخين مُنصِفين، مثل المُؤرِّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، المعروف بنصرة القضية الفلسطينية أمر محمود. يذكر بابيه في مقابلة له مع "موقع الجزيرة" عندما تم سؤاله عمّا إذا ترك الفلسطينيون أرضهم طواعية عام 1948، كما تُروّج ماكينة الإعلام الغربية، فأجاب: "لا، ليس صحيحاً، لكنهم أصبحوا لاجئين وضحايا لعملية تطهير عرقي أعدّتها القيادة الصهيونية في أوائل ذلك العام، ونُفّذت لمدّة تسعة أشهر حتى نهايته. حينها، طُرد أكثر من نصف سكّان فلسطين، ودمّرت نصف قراها ومعظم مدنها".
علينا أن نضغط على حكوماتنا لاستصدار قوانين تجرّم التطبيع
قضية التطهير العرقي، وإن كانت واضحة لدى العالَم العربي، إلّا أنها بحاجة لمزيد من تسليط الضوء عليها في العالَم الغربي، إذ إن القرار في النهاية يُصنع هناك وليس هنا. ما يقوم به النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزة، هو جزء من المقاومة وأداة مهمّة من أدوات مقاومة الاحتلال.
على الصعيد الداخلي في الدول العربية، من أفضل أدوات المقاومة الثقافية تذكير الأجيال الحديثة بتاريخ ونضال آبائهم وأجدادهم في مقاومة الكيان الصهيوني منذ نشأته. في الكويت على سبيل المثال، بدأ الدعم الشعبي للمقاومة منذ 1936، على الرغم من أن البلاد لم تكن قد استقلّت بعد، في تلك الفترة، لكن كان هناك دعم شعبي من خلال التبرّعات لفلسطين. واستمرّ هذا الدعم على امتداد العقود الماضية وصولاً إلى اليوم. إن استدعاء التاريخ، اليوم، وتوعية الأجيال الحديثة مهمّان جدّاً، خصوصاً أن القيادة السياسية في الكويت، لا تزال داعمة لفلسطين والقضية الفلسطينية. ومن هنا فإن التركيز على تاريخ المقاومة وتاريخ الدعم الكويتي للمقاومة، يُعزّز مركزية القضية الفلسطينية في الذهنية الكويتية.
من المُلاحظ وجود أصوات خافتة اليوم تُطالب بعدم دعم القضية الفلسطينية، بسبب موقف منظّمة التحرير عام 1990 من الغزو العراقي. هذه الأصوات في حال تركها وعدم مقاومة مثل هذه الادّعاءات الباطلة سيكون لها صوتٌ أعلى في المستقبل، لأنها اليوم تربط مثل هذه الحجج الواهية بالإعلام الغربي وطريقة تعاطيه مع الموضوع.
قطعاً إن استدعاء التاريخ وإبراز دور الشعوب في نصرة القضية الفلسطينية، من الجوانب الثقافية التي تُعزّز إيمان الأجيال بهذه القضية الحقّة. كما أن الاستمرار في توعية الشعوب بأن ما حصل في نكبة 1948 كان إبادة جماعية، وأنّ الحقوق لا تتساقط بالتقادم، من واجبات المثقّف العربي. كما أنّ الضغط الشعبي على الحكومات في تجريم التعامل مع الكيان الصهيوني، من الخطوات العمَلية الفاعلة للمثقّف التي يُمكن من خلالها نصرة القضية والمقاومة.
أخيراً، وفي الكويت على وجه الخصوص، هناك دور مهمّ للمثقّفين والأكاديميّين لاستغلال هذه الفرصة والضغط على نوّاب "مجلس الأمة" الكويتي لإصدار قانون يُجرّم التعاطُف مع الكيان الصهيوني، ويمنع الحكومة من التطبيع في المستقبل، لأنّ مثل هذا الموقف يُعتبر من الطُّرق الفاعلة في مقاومة الكيان المحتلّ.
* باحث وأكاديمي من الكويت
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الثالث من الملفّ: اضغط هنا