استمع إلى الملخص
- خلقت أورسولا تجربة شعرية فريدة خلال 25 سنة، مزجت فيها الشعر بفنون أخرى وتناولت قضايا مثل التغيرات المناخية والعدالة الاجتماعية، محذرة من الأنانية التي تغذيها القوى الرأسمالية.
- تشارك في تظاهرات وقراءات شعرية تطالب بوقف الحرب على غزة وتقرر تقاسم مبلغ الجائزة مع منظمات تعنى بالأطفال، مؤكدةً على أهمية المشاركة والتضامن لتحقيق عالم أفضل.
"أتمنّى أن نُولي، في هذا البلد، اهتماماً أكبر بشأن تقاسم الامتيازات التي نحظى بها.
أتمنّى أن نستخدم امتيازاتنا لمحاربة اللامساواة.
الجنوب العالمي يدفع ثمن ثرائنا.
الأكثرُ فقراً في الدنمارك يدفعون ثمن ثرائنا.
كلُّ الطبيعة - غير البشرية، في العالم، تدفع ثمن ثرائنا.
لكنَّ تصوُّرنا عن الثروة فقير".
هذا جزءٌ من كلمة ألقتها الشاعرة الدنماركية أورسولا أندكير أولسن (1970)، الصوت الشعري البارز في الدنمارك، لمناسبة استلامها، في الحادي عشر من حزيران/ يونيو الجاري، أهم جائزة تُمنح لـ الشعر الدنماركي؛ "جائزة الأمير هنريك" في دورتها الثالثة.
"بالطبع أورسولا مَن تفوز بالجائزة!"، ردُّ الفعل هذا لم يختلف عليه اثنان؛ إذ كان ثمّة إجماع، من الأفراد والمؤسّسات، على استحقاقها الجائزة والتقريرَ الذي أشاد بإضافتها المتفرّدة إلى اللغة الشعرية الدنماركية.
تُمثّل أورسولا أندكير أولسن تجربةً شعرية خاصّة وصوتاً مختلفاً تميّز عبر ما يقارب خمساً وعشرين سنة، مذ صدور أوّل ديوان شعري لها. لم يكن لقصائدها شكلٌ تقليدي، وقد هجّنت الشعر بفنون أُخرى في كتابات تجريبية عديدة، لعبت اللغة فيها دوراً حاسماً، بتمكُّن عالٍ من أدواتها، ما جعل منها، أي اللغة، كائناً حيّاً بين يديها، تتوضّح من خلالها حيوات الأشياء، وشكل علاقاتها وتشابكاتها. ولا يخفى على من يقرأ أعمالها الأدبية تحسُّس مراجعها الثقافية والمعرفية، التي تُشكّل دراستُها الفلسفة والموسيقى جزءاً هامّاً منها.
تُحذّر في نصوصها من الأنانية التي تُغذّيها القوى الرأسمالية في الفرد
كتب الناقد الأدبي الدنماركي البارز إيريك سكيوم نلسن لمناسبة فوزها بالجائزة: "وفقاً للنظرية القديمة، والتي لا تزال فاعلة، فإنّ فنّ الشعر يدور حول اللوغوس LOGOS، ولكنّه بذات الوقت مشدودٌ ما بين ميلوس MILOS وأوبسيس OPSIS، ما بين الموسيقى والفنّ المصوَّر، أي اللوحة والنحت. الشعر بإمكانه على الدوام الانزلاق جيئةً وذهاباً، ما بين الأذن والنظر. هذه الجيرة وآصرة التوتّر الجمالي تستخدمها أورسولا بطريقة فذّة. أعمالُها الأدبية تنطوي على أشكال كبيرة (مضموناً وصورةً)، حيث التأمّل أو التفكير والعاطفة يتكشّفان عبر مسار أطول، يُحيل الى المؤلّفات الموسيقية. ولكن البناء المركَّب لها يحُاكي ويفتن العين، ولطالما وظّفت أورسولا لذلك تعاونها مع فنّانين من مجالات أُخرى كالتطريز، والغرافيك والتشكيل، ما جعلها من دعاة الفنّ المُجدِّد الجامع والحُرّ".
الاقتراب أكثر قليلاً من عالمها الشعري سيكون ربّما ممكناً، إذا ما تمكّنا من التعرّف على الجانبين الفكري والإنساني على السواء لدى أورسولا أندكير أولسن. قد لا نبدو موضوعيين هنا، ولكن لا بأس؛ فقراءة الشعر لا يمكن أن تكون بموضوعيةً بحتة على الدوام. تخاطب الشاعرةُ العالمَ، وهي لا ترى عائقاً في إدخال المجتمع والواقع في اللغة. كما تلتفت إلى جسد المرأة في عبوره مراحله المختلفة، بكلّ تحوّلاته، عبر الولادة وحتى الموت. ورغم ميلها للعزلة وتثمينها تلك الفسحة من الصمت والتأمّل التي تُوفّرها الكتابة لها، تحرّضك حتى من خلال حضورها المتواضع، ولباسها البسيط، على التفكير بمسؤوليتك حيال هذا الكون.
ولكن، كأنّها تحرص على القيام بكلّ ذلك بهدوء إن لم يكن بسرّية (على سبيل المثال، كلّ ما ترتديه بنفسها تفصيلاً وخياطةً هو إعادة استهلاك، كما تختار بوعي ما تقتنيه وما تتناوله، وتدعم الجمعيات الفلاحية الصغيرة التي تعتمد طُرق الزراعة الرحيمة بالبيئة، حتى من خلال تخصيص ساعات للوقوف في المحالّ الخاصّة بها وبيع منتجاتها). ولتورّطها الكامل الهادئ في الأرض التي تلمّنا، وبسبب التغيّرات المناخية التي نشهدها، قامت أورسولا، على سبيل المثال، بقصّ شعرها في تجمع احتجاجي أمام وزارة البيئة والطاقة، دُعيت إليه مجموعة من الشعراء والدراميّين ضمن تظاهرة سُمّيت بـ"طقس عزاء للمناخ".
نجدها على تماسٍ مع ما يُصيب أرواحنا ويشرخ إنسانيتنا، تُحذّر من الأنانية التي تُغذّيها القوى الرأسمالية الكبرى في الفرد. كلُّ ذلك يَظهر جليّاً ومنسجماً، سواء لمن يتعرّف عليها، أو يقرأ نتاجها. وكما جاء في كلمتها: "عندما يشعر المرء بالوحدة، تنشأ تلك الرغبة لديه في كشط أكبر قدر ممكن لنفسه. ولكنّنا لسنا وحدنا - هذا ما يوهمنا به السوق فحسب - والطريقة الأكثر سعادة وأماناً للوجود في هذا العالم هي المشاركة".
شاركتْ، منذ بدء الحرب على غزّة، إلى جانب شاعرات وشعراء، في العديد من التظاهرات والقراءات التي تطالب بوقف الحرب. وذلك ما عبّرت عنه في الحفل الذي أُقيم في "جامعة كوبنهاغن" بحضور عددٍ من الكتّاب والشعراء والنقّاد البارزين، إضافةً إلى الملكة مارغريت التي قامت بتسليمها الجائزة.
شاركتْ في العديد من التظاهرات التي تطالب بوقف العدوان
في الكلمة، التي كان وقتُها محدّداً بصرامة، تمكّنت أورسولا من طرح ما رأت الأولوية لتوصيله. تقاسمت مبلغ الجائزة (300 ألف كرون دنماركي) مع منظّمة "أطبّاء بلا حدود" في فلسطين، و"الخطّ الساخن للأطفال"، الذي ترعاه منظّمة تُعنى بالظروف الحياتية للأطفال واليافعين، وختمت الشاعرة كلمتها بما يعكس جانباً حيّاً حقيقيّاً من شخصها، بالتأكيد على أهمّ ما يجب على الدنمارك فعلُه حاليّاً:
"وأنا أحثّ الجميع على النضال من أجل وقف الحرب الرهيبة ضدّ السكّان المدنيّين، وكأوّل خطوة صغيرة، أحثّ الحكومة الدنماركية على الاعتراف بفلسطين دولةً".
هذه الشاعرة، بالرغم من حساسيتها حدّ الهشاشة، بالرغم من أسئلة الوجود الأبدية، وبالرغم من الحسّ النقدي الذي يشفّ عبر كتاباتها، بالرغم ممّا نعيشه ونلمسه على أرض الواقع، ترفض بشكلٍ قاطع التشكيك في الدعائم الأساسية لحياة ممكنة في هذا العالَم، وهي الدفاع عن حقّ الإنسان في الحرّية، عن الحياة الآمنة، عن العدالة والمساواة:
"في النهاية، أودّ أن أقول: إن اليد التي يمكنها تغيير الألفية؛ لا أحد يملكها، ولكن معاً نكون هذه اليد.
احتالوا على السخرية!
أراكم هناك".
هنا ترجمتنا لمختارات من ديوان "صندوق حُلِيّ"، الذي رُشّح لـ"جائزة أدب الشمال".
1
السقف عالٍ، هو بيتٌ كبير
لقد فعلتُها، أحدُهم قد مات
وعلى أختي أن تساعدني بتدبّر الأمر
هل فعلتْ ذلك أيضاً؟
الأجواء جدّية، ليس فعلاً شرّيراً
ربّما لم تفعل إحدانا شيئاً، ولكن علينا أن نُحزّم كلّ العظام
كلّ أجزاء الجسد
نجمعها في قماش أزرق، بطانية، بظنّي
زرقة مستشفيات ميتة نوعاً ما، وها هي هناك
في البيت ذي السقف العالي
وبإمكاننا الآن أن نغادر
هذا ما كان
كان هو كلّ ما في الأمر
واستقلينا الباص
توصّلنا إلى ضرورة إبلاغ أحدٍ ما، الشرطة
لم نقترف جرماً، وضعنا العُمْلة
تحت اللسان كما يقتضي
في نهاية الخطّة
ليس الأمر على تلك الدرجة من السوء
كانت أمّاً، أمّها، أمي، أمّنا
أمّ أحد ما، كما أيّ أمّ
عظام الأمّ في بطانية زرقاء
في القبو في بيتٍ عالي السقف.
كان شكل الصُرّة مربّعاً
أشعر أنّ هناك عناصر غير منسجمة
أشياء ناعمة أكثر من اللازم
ناعمة بشكل غير واقعي في عالم خشن، متقشّر
■ ■ ■
2
صندوق الأمانات البنكي
أُمّي
في بطني
كما كنتُ في بطنها
عليها أن تحضنني من الداخل
*
أن تملك
مكاناً ما فيكَ
ذكرى أنّ هناك كائنَين على الأقل
كانا متّصلين
أحدهما داخل الثاني
الذي يتذكّر أنّه كان داخل ثالثٍ
ربما يتذكّر
حضارة مِن سلاسل مِن على الأقلّ اثنين
لا أحد وحيداً
قصرٌ نفيس كان في يوم ما داخل قصرٍ آخر
نفيس بنفس القدر
شيء كان واحداً وقسَّمَ نفسه و...
حضارة
ليست كيس كرات زجاجية
ليست لعباً حرّاً
مثل
صندوق حُلي بقلائد
طوال الوقت ِعِقَدٌ جديدة
طوال الوقت
زينةٌ وخناق
*
طوال الوقت
السعادة الأصلية تلك التي تُستعاض بوكلاء
أصدَقَ وأصدَقَ
لا زال المزيد من الوكلاء الأدقّ والأصدق
لا زال المزيد من الوكلاء الأدقّ والأصدق
السعادة الأصلية، تلك
القطعة التي تُستعاض بالمتعدّد الأصدق والأصدق
رقعةُ صدرٍ اصطناعية/بديل حليب الأم الاصطناعي/ إطالة القضيب
مصّاصة
مصْ من أجل نسيان الحاجة للعنف
مصْ من أجل نسيان أنّ العالم يمكن أن يكون مختلفاً
*
نسيان أنّي
يمكن أن أكون مختلفة
يجب
يجب
يجب
يجب
*
طوال الوقت
الشعور بعدم تسديد المبلغ
الشعور بعدم استلام شيء
*
الأكل وحيداً، أن أريد الـ أمك
لي وحدي.
أنا فقط
كلّ تلك المرّات التي أكلتُ فيها لوحدي لأنّ لا أحد
لا أدري
جلستُ في المطبخ لوحدي مثل الأمّ
هذا المتحرّك اللامتحرك
الذي كان يجلس على الدوام هناك
في المطبخ
لوحده
*
لأنّ لا أحد
*
يزعجني
في عوزي
*
يزعجني أثناء عملي
جلست هناك و...
من عمق المختبر
أنضمُّ إلى
تلك اللاراحة، كيف الشعور بها
لها ثقل جاذبية واضح
ناعمة، ربما صقيلة، وثقيلة
تبعث الراحة بالجسد، رغم أنّها
لا تهدأ
هل هو ابني، هل هي أمّي
هل هي أنا
هل هو شيء حيّ
عمل غير معقول
*
أخفيتُ فمي تحت شيء صلب، معدن، أو
أذِبته
ظننتُ أنْ لا أحد يمكن أن يراه
لم يعد بإمكان أحد الآن
أن يراه
لا أحد
أي أخفيتُ الوجه هناك
تحت
أسفلاً في القاع
الآن لا يمكنني التخلّي عن الوجه
لا يمكنني أن أفعل هذا بحق الآخرين.
*
الاقتصاد فاعل فقط لأنه يتحرّك
عبر القنوات الموجودة سلفاً في الإنسان،
يُوسّع البنية التحتية الحالية
سيوسّع البنيةَ التحتية هذه حتى لا يعود هناك
من شيء ما بين الطرقات في الشبكة، وكلّ شيء يصير قناة
ليس بالإمكان بناء نظام توزيع نافع
لا يوزعّ بدوره السوء
لا يوزّع بدوره اللاشيء
طعام جيّد
سمّ جيّد
حُب جيّد
كراهية جيّدة
متعة جيّدة
ألم سيّء
طعام سيّء
سمّ سيّء
حُب سيّئة
كراهية سيّئة
متعة سيّئة
ألم سيّء
لا طعام
لا سمّ
لا حُب
لا كراهية
لا متعة
لا ألم
لا شيء.
* كاتبة ومترجمة عراقية مقيمة في كوبنهاغن