إذا كانت معاناة كثير من المبدعات ــ من فنّانات وكاتبات وباحثات ــ تتمثّل في بقائهنّ وبقاء اشتغالاتهنّ في الظلّ وعدم تسليط ما يكفي من الضوء عليها في مجتمعات تحكمها الذكورية شرقاً وغرباً، فإن هذا الأمر لا ينطبق تماماً على الفنانة الجزائرية باية، أو باية محيي الدين (1931 ــ 1998).
ذلك أن التشكيلية، المولودة في بُرج الكيفان بالقُرب من الجزائر العاصمة، ستعرف الأضواء مبكّراً، حيث أُقيم معرضها الأوّل في باريس عام 1947 وهي لا تزال في السادسة عشرة من العمر، ونالت حينها تقديراً ومديحاً قلّما نالهما أحدٌ من مجايليها من الفنانات؛ مديحٌ جاء على لسان كتّاب وفنّانين ومثقّفين من ذوي الحضور المؤثّر في ذلك الوقت، مثل الشاعر السريالي أندريه بروتون.
"باية: أيقونة في التشكيل الجزائري" هو عنوان المعرض الذي افتُتح أمس الثلاثاء في "معهد العالَم العربي" بباريس، والذي يستمرّ حتى السادس والعشرين من آذار/مارس 2023، في مسعى لاستنطاق تجربة الفنانة الراحلة من جديد وتسليط ضوءٍ مختلف على تجربتها.
يضمّ المعرض أعمالاً تنتمي إلى مختلف المراحل التي مرّت بها الفنانة، منذ بداياتها "البسيطة" والتي تُحال أحياناً إلى ما يُعرَف بـ"الفن الساذج"، مروراً بفترة الستينيات، التي شهدت عودتها إلى الرسم بعد انقطاع لسنوات خصّصتها لعائلتها وأطفالها، حيث أدخلت خلال هذه الفترة عناصر جديدة إلى لوحتها، وخصوصاً الآلات الموسيقية.
وتغطّي الأعمالُ المعروضةُ السنواتِ الأخيرةَ من عمل الفنانة، والتي تبرز فيها رغبة باية في تضمين لوحاتها بإحالات تنتمي إلى ثقافتها الجزائرية وإلى عُمقها العربي والأمازيغي وحتى الأفريقي، إن كان عبر الألوان التي راحت تطغى على لوحاتها (مثل تدريجات البنّي) أو عبر التشخيصات التي تضمّ نساءً بملامح تذكّر بالمنمنمات العربية والفارسية القديمة، إلى جانب عناصر طبيعية تُحيل إلى المغرب الكبير وتضاريسه.
كما يسعى المعرض، عبر الشروحات التي تُرافق الأعمال، والنحو الذي يجري توزيعها من خلالها، إلى تفكيك سيرة الفنانة ضمن قراءة نقدية ديكولونيالية، أو تفكيكية للبُعد الاستعماري، بحيث تشرح النصوص النحو الذي "انبهر" من خلاله بعض مقتني اللوحات الفرنسيين على وجه الخصوص، وبعض النقّاد، بأعمال الفنانة "البريئة" أو "الساذجة"، والدور الذي لعبته مراكز الفنّ الباريسية في إطلاق تجربتها وشهرتها، إلى جانب الدعم الذي تحصّلت عليه من العديد من الأسماء البارزة، إن كان في الجزائر أو أوروبا، مثل الشاعر جان سيناك أو التشكيلي بابلو بيكاسو.