منذ أيّام وأنا أشمّ رائحة حديد. حديدٌ صدئٌ تارةً، وتارةً مغمّسٌ بالوحل، أو بمادّة لا أعرفها لكنّها تستحضر في بالي الغاب والتراب اللّزج.
أخرجُ إلى السوق وأرى كلّ ما تعطيه الأرض لبائعي الخضرة في هذه البقعة من بورصة: جانِرك وبندورة وتين وخيار وفليفلة ودرّاق وكرز وكرّاث وفاصوليا بيضاء زهرية ــ لا أعرف إنْ كانت تحمل اسماً عندنا. ألوانٌ جميلة. لكنْ لا رغبة في تذوّق شيء منها أو حتى في تحسُّسه. أمرّ في السوق مثل موظّف. لا أتوقّف أمام بائع الخرائط في ساحة قريبة. أين الرغبة؟ كأن اختلال حاسّة واحدة كافٍ، كما يبدو، ليختلّ عمل حواسّ أُخرى. ولتختلّ الرغبة، عطفاً على ذلك.
أمشي كمن يريد أن يمشي فحسب، أن يستعيد عافيته بالحركة قليلاً، أو يقضي الوقت. أقول أجلس هنا، في هذا المقهى ــ ربما تعود طعمةُ القهوة إذا ما ذقتها من جديد، وتعود لذّتها. لكنّ طعمها الآن، في هذا المقهى بسوق بورصة القديم، أشبه بطعم الحديد والطمي. ورائحتُها كذلك.
■ ■ ■
حتى ساعةٍ مضت لم أكن أذكر أنني جئت يوماً إلى بورصة بالسيارة. كنتُ أعتقد أنني لطالما جئتها بالسفينة، من ميناء صغير في إسطنبول. نسيت أنني في أولى زياراتي الأربع جئتها بالسيارة، وكان ما يزال والدي حيّاً بيننا. الأغلب أنني نسيت تلك الرحلة الوحيدة بالسيارة لهذا السبب: لأن والدي كان بيننا ولم يعد كذلك اليوم.
جاء واستقبلني حينها مع أمّي وأختي في المطار، بعد تسع أعوام لم أرهم خلالها. وبعد أشهر قليلة غادر عالمنا. لم يحتمل جسده ثِقلَ كورونا. غاب ولم أرَه إلّا من بعيد، عبر شاشة الهاتف. أشار لي سريعاً فقط عبر واتساب قبل يومين من نقله إلى المستشفى وعزْله ثم رحيله. وأنا، في كلِّ زيارة، منذ 2021، أذهب لأزوره ولا أراه. أبكي. وأفعل ما لا أؤمن به، فقط من أجله: أقرأ القرآن بالقرب من قبره، مع أخوَيّ. في البداية قلت إن ذلك كذِب. ثم لم يعد يهمّني الأمر. أقرأ له سورة كان يحبّها ويقرأها كلّ أسبوع. وأسقي الزرع على قبره وعلى القبور المُجاورة. ثم أعود مع أخوَيّ نصف ساعة أو أكثر بالطريق إلى بورصة.
هنا، عندما دُفن أبي، لم يكن ثمّة إلّا صفّ صغير من القبور: شباب وأطفال ومسنّون سوريون، أغلبهم من حلب، أنهى كورونا حياتهم ووجدتْ لهم البلدية قطعةَ أرضٍ بعيدةً عن المدينة لدفنهم. اليوم تكاد أن تكون التربة مدينةً صغيرة بحالها، من فرط كبرها. مدينة مقطوعة عن العالم. نصف سكّانها تقريباً سوريون. وقليلون زوّارهم.
■ ■ ■
كنت أعتقد، إذاً، أنني لطالما جئتُ بورصة من الماء. وذلك، كما يعرف مَن زاروها، أيسرُ من مجيئها بوسيلة أُخرى. الماء يجمعها بإسطنبول. تأخذ القارب السريع، الذي يشبه أي شيء في مخيلتك إلّا الصورة الرومانسية الشائعة عن القوارب والسفر عبر البحر، وتصل إلى مُضانيا بأقلّ من ساعتين.
ومن مضانيا تأخذ الباص أو الميني باص وتصل إلى بورصة خلال خمس عشرين دقيقة. ابنُ أخيك الأكبر ينتظرك في محطة ترامواي منتصفَ الطريق. قلتَ له ألّا يُتعِب نفسه بالمجيء، لكنّه أصرّ. يحتضنك ويأخذ منك حقيبتك. يصرّ على فعل ذلك ــ أمورٌ لم تعد، منذ سنوات، معتاداً عليها. أي أن يصرّ الناس على فعل شيء من أجلك، حتّى حين تطلب أن يريحوا أنفسهم.
تستعيد مثل هذه العادات هنا، وتعثر في بورصة على شيء من حياتك السابقة، التي تبدو لك اليوم أكثر غموضاً من الليل. هذه الحياة السابقة، تعود إليها دون مقدّماتٍ فتجد، في كلّ مرة، أنّك لست مهيّئاً تماماً لملاقاتها من جديد. لستَ مستعدّاً لتلقّف ماضيك بهذه الطريقة الفجّة. وهو ما تفهمه ممّا يحدث لجسدك الذي، في كلّ مرّة، يمرض عندما يُحاط بمَن عرفوه صغيراً وشاهدوه يكبر ثم يرحل.
هذه المرة، ها أنت منذ سبعة أيام مستلقٍ، تارةً على السرير في غرفة ابن أخيك، وتارةً على الأريكة الزرقاء في الصالون. جسدك شبْه ممزّق عند كلّ مفصل. أعلى جهازك التنفسي متأزّم، ولا قدرة لك على شرح الكثير للزوّار الذين يصرّون على خدمتك ولمسك رغم طلبك إليهم بتجنّب العدوى. "الله الشافي"، يقولون لك.
■ ■ ■
لكنّ ما أصابك من مرض ليس كورونا، بالتأكيد، بل الكريب. "كريب ثقيل". هذا ما عليك قولُه لكلّ مَن يسألك هنا، كما أفهمكَ أكثر من شخص حولك. مع أن الفحص السريع، الذي أحضرتَه معك خلال زيارتك الأخيرة، العامَ الماضي، وظلّت منه علبتان هنا، يشير إلى أنك مصاب بكورونا.
عليك أن تتجنّب لفظ اسم هذا الفيروس، رغم أن فعْله ظاهرٌ في جسدك. إرهاقٌ هائلٌ ونومٌ غريبٌ على أرِقٍ مثلك، وعرقٌ كثيرٌ وفقدانٌ للشمّ وألمٌ في البطن والمفاصل وإقياء. عليك تجنّب كلمة كورونا. صوتها يوقظ هلعاً رابضاً في مخيّلة أكثر من شخص من عائلتك. رحيل والدك بكورونا ما يزال ناراً تلذع. نارٌ غير مرئية، يكتوي بها الجميع ويتلافاها.
يذكّرك هذا، مرّة أُخرى، بسنواتك الأولى. تلك الأيام التي كان يموت فيها جيران وأقارب ويقول الجميع إنهم "ماتوا موت ربهم" أو رحلوا "بهداك المرض". توقّفتَ منذ سنوات عن التكبُّر على سلوكٍ كهذا. كلّ ثقافة تعالج الموت والخوف منه بطريقتها. وأنت هنا تحترم اعتقادَ مَن ربّوك. رغم أن هذا يضيف طبقةً من الإرهاق إلى إرهاقك، أنت الذي عليك أن تقنع والدتك بأنك لست مصاباً بأكثر من كريب عابر، كي تستطيع عيناها النوم دون قلقٍ عليك.
■ ■ ■
لم تأتِ إلى هنا كي تنشغل بنفسك. لكنّك لا تكفّ، على الأقل في هذا النص، عن فعل ذلك. مع أن الله يعلم أنّ الأمر في الحقيقة ليس كذلك. جئتَ إلى هنا من أجل غيرك، من أجل رؤية مَن تُحبّ، لأنّك تحبّهم، رغم صعوبة اللقاء وصعوبة الظروف.
الحياة شاقّة هنا. شاقّة جدّاً. الناس تناضل طيلة النهار من أجل تأمين أساسيات العيش من مسكن ومأكل ومشرب. أمّا الترفيه عن النفس، فلا يذهب أبعد من فيديوهات أو ألعاب على الهاتف المحمول. تتحدّث هنا عن أقرانك السوريين. عمّن رأيتهم ورأيت عيشهم. حقوقهم شبه معدومة. كارهوهم كثر. والتعامل معهم مخزٍ في هذا البلد.
خذ مثلاً رفْض كثير من الأتراك تأجير بيوتهم للسوريين. هذا ما قاساه أغلب أقرانك، الذين تغلَق الهواتف والأبواب في وجوههم بمجرّد ما أن يسمع أصحاب العقارات الأتراك بأنهم سوريون. "لا نؤجّر للأجانب"، كان يقول لك أصحاب البيوت والعقارات عندما كنت تبحث، قبل عامين، عن بيت لأمك وعائلة أحد أخوتك. تعامُلٌ يدفع أقرانك إلى أمرين: إمّا الاكتفاء بأسوأ البيوت، تلك التي لا يسكنها الأتراك لفرط رطوبتها وسوء بنائها؛ أو المزايدة على الأتراك عبر دفع عدّة أشهر من الإيجار مسبقاً، بل ودفع مبالغ تفوق بكثير أحياناً تلك التي يدفعها الأتراك.
ولأن جهد شخص أو اثنين لا يكفي لتأمين العيش في ظروفٍ كهذه، فإنك ترى الفتيان يغادرون مدارسهم كي يعملوا ويعيلوا أهلهم. رغم أنهم ما يزالون في الثالثة عشرة والخامسة عشرة والسابعة عشرة. يافعون بعمر الورد، كما كنّا نقول، يقضون أيامهم وراء ماكينات الخياطة وآلات صنْع علب البلاستيك. ما الذي سيخرج من هذه الأجيال؟ عمّالٌ يتقنون مِهَناً قد تقادمت ربما. وأشخاصٌ سيفخرون يوماً بأنهم أبقوا أجساداً عدّة على قيد الحياة، بفضل تعَب جسدهم.
■ ■ ■
في الحمّى، مستلقياً تحت السقف الذي تنكسر عليه حماوة شمس لا ترحم (غوغل يتوقّع 43 درجة كحدّ أقصى لهذا اليوم)، تسمع أخاك يخرج من غرفته. يشرب القهوة، لا يفطر، ويخرج. السابعة إلّا ربعاً صباحاً. طريقه إلى العمل ساعةٌ أو أقل أو أكثر بقليل، بحسب حال المواصلات. لديه نصف ساعة فقط للغداء. راتبه يزيد قليلاً عن نصف الراتب الأدنى الذي تسمح به الحكومة التركية. صاحب بيته أخبره بأنه سيضاعف إيجار بيته الشهر المقبل، "بسبب التضخّم". لكنّ راتب أخيك سيبقى على حاله. "هادا اللي الله مقدّرنا عليه حالياً"، يقول له صاحب العمل.
يعود من شغله قليلاً بعد الثامنة مساءً. بالكاد يرى عائلته. يأكل معهم سريعاً ويشرب الشاي. يشاهد التلفزيون أو يقلّب في هاتفه، ثم ينام.
كلّ يوم أو اثنين يعود ويسألك إنْ كنت قد تلقّيتَ ردّاً على الطعن في قرار رفْض منْحه الفيزا إلى فرنسا. وكلّ مرّة، حتى الآن، تقول له قراراً لم يصدر بعد. هذا، في الأغلب، الأمل الوحيد الذي يبقيه راغباً في الاستمرار: فكرة أنه قد يخرج يوماً، ربّما، ربما، من هذا الجحيم.
* كاتب سوري مقيم في فرنسا