أيّ إنسان أنت؟

20 سبتمبر 2024
تمثال المتنبّي في الشارع الذي يحمل اسمه ببغداد، آذار/ مارس 2010 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- توماس مان يوضح أن العلاقة بين الفنان والواقع مليئة بسوء الفهم، حيث يستمد الفنان تفاصيله من الواقع ويعيد إحياءها، مما يسبب أزمات مع الواقع.
- الأزمات بين الأدب والواقع تتنوع عبر المجتمعات، كما في رفض رواية "يوليسيس" في أوروبا وانتقاد رالف إليسون للعنصرية في "الرجل اللامرئي".
- المتنبي وأبو العلاء المعري كانا من أبرز الشعراء العرب الذين اعترضوا على واقعهم، حيث استخدم المتنبي المجاز لإخفاء مقاصده، بينما اختار المعري العزلة بعد يأسه من الإصلاح.

يقول توماس مان إنّ العلاقة بين الفنّان والواقع قائمةٌ على سوء التفاهم. والسبب الذي حداه إلى هذا القول، كما فهمتُ من مقالته "عن الفنّ والفنّان"، هو أنّه عندما كان يكتب روايته "آل بودنبروك"، ولم تكن بلدة "لوبك"، وهي المدينة التي وُلد فيها، تُشكّل بالنسبة إليه إلّا واقعاً باهتاً، وقد دُهش عندما علم أنّ الرواية حين صدرت أثارت ضجّةً وغضباً هناك. لماذا؟ قال إنّ الفنّان، وهو يقصد الكاتب بالطبع، حين يكتب عملاً ما، إنّما يستمدّ تفاصيله من الواقع، ولكنّه يُعيد إحياء تلك المادّة التي استقاها، ويملؤها من ذاته، ممّا يجعلها ملكاً له وحده، وهذا يؤدّي إلى أزمات مع الواقع.

والأزمات مع الواقع متعدّدة، ومتنوّعة، ومتنقّلة بين المجتمعات البشرية كلّها، منذ أن نشأت الرواية إلى يومنا هذا. في أوروبا رفض الناشرون رواية "يوليسيس"، وطُبعت أوّل مرّة في أميركا، إذ بدا في تلك السنوات ألّا تناقُض بين الرواية وبين المجتمع الأميركي، وأُرغم الواقع الأوروبي على التنازل في ما بعد. انتصرت رؤيته للواقع. لقد استعاد الروائي مكانته، دون أن تُراق الدماء بالطبع. وفي رواية "الرجل اللامرئي"، يهجو الكاتب الأميركي رالف إليسون مجتمع البيض الذين يمارسون العنصرية، كما يهجو مجتمع السود الذين يرضخون وينحنون. أين يقف القارئ؟ في خندق السلطة، أم في رصيف الكاتب؟ لم يثبت بعد أن القرّاء انحازوا تماماً إلى جانب أحد الطرفين بالكامل.

وفي الاتحاد السوفييتي سابقاً، نشأت علاقة تنافُر بين الروائي والشاعر بوريس باسترناك وبين المجتمع. فإعادة إحياء تاريخ الثورة روائياً في روايته "دكتور جيفاكو" كانت مرفوضة من قِبل القوّة المسيطرة أوّلاً، أي الحزب الشيوعي، وقيادته، وليس لدينا ما يدلّ على أنّ المجتمع القارئ آنذاك رأى في الرواية ما رأته القيادة، أم كانت لديهم آراء أُخرى.

كان المتنبّي الشاعر العربي الأكثر اعتراضاً على واقعه

وفي مقالته عن المتنبّي، قال جبرا إبراهيم جبرا إنّ الشاعر العربي هو الأكثر ضجيجاً في إعلان اعتراضاته على واقعه، وقد كان معظم الشعر الذي كتبه محاولةً منه لتثبيت هذا التناقض، أو إزالته، في زمن لا يتحمل وجوده، وسوف يقتله ذلك الزمن بسيف واحد من ممثّليه. ولعلّ المتنبّي كان الأكثر قدرة على إخفاء ذلك التناقض بينه وبين مجتمعه، عبر شعر تُسيطر عليه قوّة مَجازية غامضة تُخفي أحياناً مقاصد الشاعر الدفينة، بينما أعلن أبو العلاء المعرّي موقفاً صارماً تجاه مجتمعه وزمنه، واختار في ما بعد، حين يئس تقريباً من محاولات "الإصلاح" التي سعى إليها في شعره، لتغيير الخلل الذي لاحظه بقوّة، أن يعتزل المجتمع، ويرهن نفسه في المحبس الواقعي الآخر، بعد محبسه في خسارة البصر.

كتب تولستوي ذات مرّة قائلاً: "عندما نقرأ عملاً أدبياً، فإنّ السؤال الأساسي في روحنا يكون: أيّ إنسان أنت؟"، بينما قال تورغينيف: "مهمٌّ في كلّ عبقرية ذلك الذي أقرر تسميته صوتي"، وقال إنّه من أجل أن يقول الفنّان هكذا، لا بد أن تكون لديه تلك الحنجرة الفريدة. قال: "كما هو الأمر عند العصافير".


* روائي من سورية

المساهمون