في وقت مبكّر من مسيرته، بدأت تتشكّل ملامح تجربة مغايرة في السرد لدى القاص والروائي الأردني إلياس فركوح (1948 – 2020)، عبر اهتمامه بالتفاصيل والهوامش التي تعيشها شخصياته العمّانية وتكثيفه لحالاتها المركّبة والمتعدّدة، مبتعداً عن القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى التي كانت تشغل بال الروائيين والقاصّين في السبعينيات.
وتميزّت أعمال الراحل بنزوعه نحو تشكيل لغة اعتنى فيها بالمفردة وتشابكاتها مع المعنى والصورة، والتجريب الذي قاده إلى التأمل في الكتابة نفسها كفعل يأبي أن يكتمل أو يخلص إلى يقين، وظلّ مخلصاً للقراءة المتأنّية الحافرة التي تَمَثَّلَها في كتابة الأدب والمقال والترجمة، وأضاءتها الندوة الاستذكارية التي نظّمها "منتدى مؤسّسة عبد الحميد شومان الثقافي" أمس الإثنين بالتعاون مع "مختبر السرديات الأردني".
في وَرقته "الإقامة في أرض اليمبوس؛ صور من تقاطعات السرد والسيرة والهوية"، أشار الناقد والأكاديمي محمد عبيد الله إلى أن كتابة فركوح تقيم في منطقة بينية وسطى، يمكن أن نصطلح على تسميتها بــ"أرض اليمبوس" أي بالتسمية التي اختارها فركوح عنواناً لروايته الثالثة، وهي تسمية مستوحاة من الثقافة المسيحية، بما يقرب من "منطقة الأعراف" وفق التصور الإسلامي، حيث تنطلق كتابته من ذلك الأصل وتتوسع به إلى حدود بعيدة، أي أنه تعامل مع هذه المنطقة ذات الأصل الاعتقادي البيني بوصفها استعارة وجودية تشمل حياته وتفكيره وأدبه.
ظلّ مخلصاً للقراءة المتأنية الحافرة التي تَمَثَّلَها في كتابة الأدب والمقال والترجمة
وأوضح بأن فركوح لم يكتب سيرة صريحة أو حتى مقنّعة لنفسه، وأنه ألّف في القصة القصيرة والرواية لا ليروي من خلالهما سيرته فحسب، وإنما ليصقل السيرة مستعيناً بآليات الذاكرة وبإمكانات الوعي السَّؤول والمتشكّك، فتغدو الرواية سبيلاً من سبل مساءلة الهوية ومواجهة مآزقها وتعريفاتها وتجلياتها الجميلة والبشعة على مستوى الفرد والجماعة، وعلى مستوى المآل الوجودي لهوية الإنسان ككائن يقيم في منطقة التسآل والترحال.
ورأى عبيد الله أن مصادفة أصول الراحل وأنسابه منحته نعمة الهوية المتعدّدة المركّبة (اليونانية والسورية)، بدلاً من الهوية الواحدة المحدودة، وبنى على ذلك التنوع والتركيب أكثر آرائه الفكرية والأدبية، من موقف النظرة إلى اختلاف الثقافات والحضارات، وحتى تداخل الأجناس والأنواع الكتابية. وفي ضوء ذلك لا نستغرب حنوّ قصته وروايته على الشعر والمسرح والصّحافة والفنون المختلفة، من الناحية التقنية، كأنها تتجاوب مع ذلك التنوّع الخصب الذي تخبئه روح فركوح وتكوينه العميق، مثلما تعكس تنوّع الشخصيات والأرواح التي يكتب عنها ويحاور أعماقها، بحيث يغدو النسيج السردي كرنفالاً للتنوع والتداخل بعيداً عن واحدية الجنس والنوع الأدبي، وبعيداً عن فكرة السمات الخالصة أو النقية التي ينادي بها بعض الأدباء للتمييز بين الأجناس.
لا يبدو مستغرباً حنوّ قصته وروايته على الشعر والمسرح والصحافة والفنون المختلفة
وفي ورقة الناقد فخري صالح "لُعبة تحليل المشاعر وتعدد الخيارات الأسلوبية"، التي قرأها القاص مفلح العدوان، التفاتٌ إلى فركوح الذي عكف، على مدار مجموعاته القصصية، على تطوير تجربته والغوص داخل شخصياته القصصية، محاولاً التعرّف على الواقع الاجتماعي ــ السياسي الذي تتحرك ضمنه. وقد اتسم عمله منذ بداياته الأولى بجَدْل الأرضية السياسية ــ الاجتماعية في قصصه مع تأملات الراوي ومونولوغات الشخصيات التي تشكل جزءاً من المشهد الاجتماعي، لكنها تحاول، في الوقت نفسه، تأويله عبر تقليبه على نارها الداخلية.
وأضاف أن فركوح "يعتمد أسلوبَ التجديد والاشتغالَ على الشكل، واستخدامَ تداخل الأنواع، كمزج الشعري بالسردي، والحفر على الباطن والأعماق، والبحث عن معنى للهزائم والخسارات واندثار الأحلام" ليقيم "عمارته الروائية".
أمّا القاصة هيفاء أبو النادي، فبيّنت في ورقتها "تأمل الذات لاستكشاف العالَم" أنه "حين يكتب إلياس المقالة الفنية أو السياسية مثلاً، فإنه يكتبها بلغة سردية أدبية نقدية، تتصف بالعمق والتركيز والتوثيق والموضوعية، فتصير في الوقت نفسه نصّاً أدبيّاً بامتياز. إنه يعرض فيها موضوعاً أو فكرة، أو يقدِّم كتاباً أدبيّاً جديداً كان قد قرأه، فيعرض موضوعه، ويُعرِّف به وبصاحبه ويناقشه وينقده، آتياً على ذكر ما فيه من حسنات وسيئات بطريقة نقدية بنَّاءة. كما يتناول في عدد آخر من مقالاته عرضاً وتحليلاً لموضوعاتٍ فنية، أو تعريفاً بفنانين أو فنانات، وأعمالهم الفنية، ثم يضعها تحت مبضع التعريف والنقد والتحليل والنقاش، مرفقاً معها صوراً لهذه الأعمال".
الكتابة عنده نتاجُ تأملاتٍ طويلةٍ لما تختزنه الذات الكاتبة من أسئلة، وأفكار، وافتراضات، وهواجس
وتابعت: "رصد إلياس الواقع الإنساني بكل ما فيه بوعي أدبي عالٍ ومقدرة على الرؤية الجلية ظهرت في جلِّ ما كتب. فتبدَّى ذلك بدوام بحثه عن تطلع الإنسان للتغيير والحرية، من خلال نضجه الفكري والسياسي والفني، ومواكبته المستمرة لما يحدث من تطور حوله، وتفاعله واشتباكه الدائمين مع أحداث هذه الأمة والتحولات الحياتية فيها... فالكتابة عند إلياس نتاجُ تأملاتٍ طويلةٍ لما تختزنه الذات الكاتبة من أسئلة، وأفكار، وافتراضات، وهواجس، وقد اختمرت، فيكون النص عندها الشاشةَ التي تُعرَضُ عليها عملية التأمل المكتوبة تلك".
الشاعر والمترجم وليد السويركي تحدّث في ورقته عن تجربة الترجمة عند الراحل، حيث "روح الهواية والشغف حرّرته كناشر من الاعتبارات التجارية والتسويقية إلا بالقدر الذ يمكنه من الاستمرار، وطبعت منشورات 'دار أزمنة'وهويتها بذوقه واختياراته الشخصية كقارىء حصيف ومتابع شغوف"، مشيراً إلى "الكتاب المترجم قد صنع إلى حد بعيد سمعة الدار ومكانتها عربياً بفضل تلك الاختيارات للعناوين المهمة وللمترجمين الأكفياء".
روح الهواية والشغف حرّرته كناشر من الاعتبارات التجارية والتسويقية
واستعاد تجربته مترجماً في الصحافة الثقافية، منذ "مجلة المهد" التي لعبت في الثمانينيات دوراً مهماً في التعريف بالتيارات الحداثية في النقد والسرد والشعر والفنون، والانفتاح على آداب العالم، موضحاً أن ملمحَيْن أساسيين سيلازمان فركوح في مسيرته كفاعل ثقافي: القدرة على استقطاب المبدعين من الكتّاب والنقاد والمترجمين (بفعل شخصيته المحبَّبة وثقافته الواسعة)، وامتلاك رؤية ذكية وعميقة وشاملة لدور الصحافة الثقافية ووضعها موضع التنفيذ.
في تقديمه، استذكر رئيس "مختبر السرديات"، مفلح العدوان، جيلاً من الكتّاب في الأردن احتضنهم فركوح و"دار أزمنة"، وكان بوّابة دخولهم إلى عالم الأدب والنشر؛ هذا كان في التسعينيات من القرن الماضي، حين كان نشْر الكتاب صعباً، فأطلق مشروع "تباشير" لإصدار الكتاب الأول للأدباء الشباب، الذين بات بعضهم كتّاباً معروفين في الساحة الأدبية المحلية والعربية، كما فتح باب النشر عربياً كي يطّلع القرّاء على آخر ما ينشر من رواية وقصة وشعر ونقد لمبدعين عرب كبار، واحتفى بالأدب العالمي ترجمةً ونشراً، التزاماً بحسّه الإنساني والإبداعي.