إيتالو كالفينو: "حكاياتٌ" تنظر في عبثية الحرب

08 يونيو 2023
إيتالو كالفينو في منزله بروما، كانون الأوّل/ ديسمبر 1984 (Getty)
+ الخط -

قصص الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو (1923 - 1985)، الصادرةُ حديثاً بترجمة رانية قاسم عن دار "التكوين" السورية بعنوان "الحكايات"، درسٌ أسلوبي في أدب الحرب، يَلزم الكتّاب؛ وقد صارت الحرب إحدى موضوعاتهم، ويَلزم القرّاء الذين أرّقهم واقع الحرب. في المجموعة يوميات تجري أحداثها إمَّا تحت ضغط الاقتتال، أو في أعقابه، ما صنع شخصيات تنطوي على هشاشة ورقّة، وعلى تعاطف إنساني اجترحَ نفسه من صلب القسوة.

تنطوي الحكايات على براءة، لا يوجد ما يمنع من أن تُقرأ سذاجةً؛ لأنَّ حدث الحرب يفوق وعي الأفراد، فإن لم يحطمه، أعادَ إخراجه بالصورة التي أظهرها كالفينو على أنَّه وعيٌ غافل، مرتبك، لشخصيات تريد أن تحبّ، ولكنها تخشى العاطفة. وتريد أن تكره، ولكنها لم تعد قادرة على الكراهية. ومن بين احتمالات عديدة لنموّ الشخصية التي تخضع للحرب، ينتخب الكاتب الإيطالي الاحتمالَ الذي يُشيع طمأنينة الهدنة، لا خطورة البارود.

بعضُ شخصيات القسم الأول، "حكايات الحرب"، كُتب لها أن تعيش. وبعضهم شهدوا ذروة مصائرهم، وهم يواجهون أحكام القتل، أو يؤخذون غدراً. وهو غدر الموقف، وخديعة أن تموت بإمرة القيادة. كما نراهم يحدسون باقتراب الموت، إذ يَقرأ الجندي اقتراب موته من اضطراب سلاحه، وإطلاقه العشوائي على الأشجار، قبل أن تستقر الطلقة في النسر على سترته. 

شخصياتٌ نراها في الحرب وفي مجتمع يعقب انتهاءها

القصص في القسم الأول بمجملها استدلال في مجيء الموت، ما تمثّله قصة "حقل الألغام" التي تعرض مصير الجندي على نحو لا يختلف عن مصير الحيوان، بل الحيوان يفوقه بإمكانية النجاة، فالألغام مضادات للبشر، ويلزم ثقل وزنهم كي تتفتت أجسادهم فوق اللغم. تظهر نهايات القصص بتراً في الحكاية، مفاجئة، على الرغم من توقعها. وهذا يحدث لأنَّ كالفينو قرأ الموت ضمن عالم الحرب، وهو موتٌ من طبيعةٍ يَتَغافلُ عنه الجندي، كي يَستلهم وينادي على النجاة.

في قصة "في غابة الحيوانات"، عاد الفلّاح إلى القرية كي يحمي بقرته من الجنود الألمان، ثمَّ نراه في الغابة، يلاحق الجندي الألماني الذي بدوره ما إن يفقد حيواناً حتى يلحق بآخر. يتبعه الفلّاح بسلاحٍ، لا يجيد التسديد به، ويتبعهما معاً أصحاب الحيوانات الأليفة التي هربت إلى الغابة. والقصة البارعة التي تصوّر معتدياً انشغلَ عن مهامه، ومعتدىً عليهِ لم يفلح في الدفاع عن أملاكه، مع ذلك، يُكرَّم لشجاعته؛ هي أكثر قصص المجموعة التي تنظر إلى عبثية حدث الحرب، وتنظر إلى اختلاط مصائر البشر بمصائر الحيوانات. إذ يصبحون معاً، مجرَّد كائنات مذعورة تَقتل كي تؤجل موتها. تهرب كي تؤجل موتها. فيما تتبعهم نظراتٌ اعتقد أصحابها النجاةَ عن طريق رؤيتهم موت الآخرين.

غلاف الكتاب

أيضاً في القصص تتبّعٌ آخر، بسبب الجوع والحصار، إذ يتتبع الأهالي الجائعون بنظراتهم، العجوزَ الذي يتطوَّع كي يُحضر الخبز عبر خطوط النار، وينجو. استمر يُحضر الخبز يومياً على بغله الذي لم يُغرِ الألمان، واستمر بالنجاة... إلى أن انتهى مقتولاً بنيران الفاشية الإيطالية، بنيران صديقة، وهذا الموت الصديق حدث في القصة الأخيرة من القسم الأول "الجوع في بيفيرا".

عالَم الحرب معروف، أو يمكن أن يُستدل عليه بسهولةِ حدوث الموت، وبالمآثر التي يتكلّف البشر عناءها. لكن في القسم الثاني، فإنَّ تقديم القصص تحت عنوان "حكايات ما بعد الحرب"، إحدى علامات قراءتها. القصص كثيرة. لكن أبرزها حكاية "سرقة متجر الحلويات"، وفيها يتناوب ثلاثة أطفال على الحراسة في أثناء سرقتهم لمتجر الحلويات. وفي الواقع، السرقة تحدث بحدود توقهم إلى الحلوى. لكن عندما يضيق أحدهم بالانتظار، يدخل، وتأتي الشرطة بعده. ولا نرى فرقاً بين الشرطة واللصوص، وقد صار المتجر نهباً للشرطة بالطريقة ذاتها التي كان فيها نهباً للصوص.

في حكاية أُخرى، وهي "سمك كبير وسمك صغير"، يقصّ كالفينو حكاية سيدة تعيسة بسبب الحب، تبكي على الشاطئ، فيما الفتى لا يفهم سبب حزنها أمام زرقة البحر وتنوّع الأسماك. وهذا توصيف. لكن بعد أن نعرف تعاسة المرأة وبهجة الفتى، يبدأ الحدث الذي يختزل مقولة المجموعة كلّها، وهو اقتراح الفتى على السيدة كي يخفف من حزنها؛ أن يشركها معه بالصيد، وتوافق، ويخفّف بالفعل بعضاً من أساها. جوهر القصص يُقرأ هنا، لمجموعة من البشر الذين أفترت الحرب إرادتهم على العيش، كما لو أنّهم قد سُكنوا بفعل الحرب، بطيفٍ ثقيل من الخذلان. لكن باختيارات كالفينو يقول للشخصيات وعبرهم للقارئ: ما من سبيل آخر للإيمان بالبشر سِوى البشر أنفسهم.

ما من سبيل آخر للإيمان بالبشر سِوى البشر أنفسهم

ما يظهر أيضاً في قصة "ننام كالكلاب" وفيها انتهت الحرب، لكن احتل أمكنتها عوزٌ وفرار. بعد أن انحدرت بظروف عيش البشر، حدّاً يشبّهون نومهم، على الأرض، وهُم يتقاسمون الأغطية القليلة، بنومِ الكلاب. إنَّهم بلا مأوى، مشردون، بلا أسقف ولا أوطان تحميهم.

القسم الأخير من المجموعة، التي تقع في 358 صفحة، متنوّع تنوُّع القصص التي تحكي حكاية نماذج نراها في الحرب، ونراها في مجتمع يلي الحرب. لكن هنا في "الحكايات" بدا أنَّ كالفينو يكتب من أرشيف تجارب إنسانية للموظف والمصوِّر والقارئ والشاعر والزوجة والجندي. وفي القصص يحدس القارئ بمدى اقتراب المؤلّف ببساطة وعمق من النماذج التي أخرجَ حدث الحرب أجمل وأعمق ما فيها.

ربما تكون "مغامرة الجندي" من أكثر قصص المجموعة رهافةً وقسوة، إذ فيها الجانب الحميم لجندي عائد في إجازة، نراه ينكمش في المقعد إلى جوار سيدة، نعرف أنَّها أرملة. يحتار الجندي بجسده، ومن جرَّاء ارتباكه يعتقد القارئ أنَّ جسد الجندي يفيض به، قبل أن نرى الجندي يتطفَّل على حيز السيدة؛ بل يعتدي عليه بالتدريج. بدا أنَّ الجندي مع الأرملة يتقاسمان الواقع القاسي نفسه.

في "الحكايات"، نرى كيف يتآلف الواقع من تلقاء نفسه بعناصرهِ ذاتها، وليس الفن لدى كالفينو، سِوى تصوير العلاقات التي تجمع البشر إلى بعضهم. على الرغم من تقديم نماذج وصفية، إلا أنَّ العلاقات التي تجمع تلك النماذج هي ما صنعت فرادة المجموعة، لأنَّها علاقاتٌ تقرأ واقع الحرب بقسوته، وبانفتاحه على الممكن والجديد. 


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون