"في عيد الميلاد القادم، لا تدخُلوا منازل غير الملقّحين ولا تدْعوهم إلى منازلكم". هكذا عنونت قبل أيام صحيفةُ "كورييري ديللا سيرا" الإيطالية واسعة الانتشار إحدى مقالاتها بعد حوالَي عامين من اندلاع أزمة كورونا في إيطاليا ودخول البلاد حالة طوارئ لا توجد أي مؤشّرات بعدُ تدل على قرب رفعها.
لا تزال تداعيات الوباء تشغل حيّزاً واسعاً من نقاشات الإيطاليين على ساحات وسائل التواصل الاجتماعي واستوديوهات التلفزة، وكذا بين المثقّفين. ليس من خلال التدبُّر في الأبعاد الفلسفية لما يلفّ الحدث، كما دلّت على ذلك الإرهاصات الأولى لإبداعات "ما بعد كورونا"، بل من خلال الانخراط في حملات "توعية" بأهمية التلقيح، عن طريق رسائل كراهية وتفرقة صريحة، على غرار ما يظهر من عنوان صحيفة "كورييري"، ضدّ من أصبح يُطلَق عليهم مؤخّراً اسم No Vax (المعارضون للقاح). تتجاوز نسبةُ هؤلاء بالأساس 14 بالمائة من مجموع الإيطاليّين البالغين، إلّا أنها نسبة تستثمر فيها الحكومة من أجل خلق صراعات جديدة بين الإيطاليّين الذين لم يكن ينقصهم بعدَ صراعات الشمال ـ الجنوب، واليمين ـ اليسار، والنساء ـ الرجال، والإيطاليّين ـ المهاجرين، والمثليّين ـ الغيريّين، سوى الصراع بين الملقّحين وغير الملقّحين.
وقد اختار المثقّفون الإيطاليون، في مجملهم، الاصطفاف مع الحكومة (اليسارية)، وإلغاء أي وجهة نظر نقدية لتوجُّهات النظام. مع بقاء أصوات قليلة جدّاً من المثقّفين المغردين خارج السرب، على غرار الفيلسوف ماسيمو كاتشاري Massimo Cacciari الذي يُعد أبرز المعارضين لسياسة تكميم الأفواه التي تمارسها حكومة دراغي ضد المشكّكين في جدوى الإجراءات التي تتّخذها الحكومة لمواجهة الوباء، وهي الأكثر صرامة في أوروبا، والذين يرون أنّها أشبه بإجراءات الحكومات التوتاليتارية على غرار قانون Green pass الذي يقضي بإثبات الخضوع للتلقيح أو ضرورة الفحص غير المجّاني لغير الملقحين كلّ 48 ساعة من أجل الدخول إلى الفضاءات العامّة، لا سيما الثقافية منها، بل وحتى للالتحاق بالعمل. وهو الأمر الذي لا يزال يُشعل الكثير من المظاهرات والاحتجاجات منذ الصائفة الماضية في كامل أنحاء إيطاليا، مع محاولات تعتيم أو شيطنة متواصلة لهذه التحرُّكات الشعبية في وسائل الإعلام من جهة، وخضوع شديد للسردية التي تقدّمها الحكومة من أطياف واسعة من المجتمع من جهة أُخرى.
رسائل كراهية في حملات التوعية بالتلقيح ضدّ كورونا
في هذا السياق، يُلاحِظ المخرج ماسيمو سيليس، وهو صوت معارض آخر، خلال ملتقى نظّمه مؤخّراً مركز الدراسات الدولي "ديموري ديلا سابيينسا" حول الرقابة الحكومية في عصر رأسمالية ما بعد كورونا، أنّه وبعد عقود من إزاحة الرب عن الحياة العامّة في الغرب، يعود الإيطالي خلال السنتَين الأخيرتين ليبدو وكأنه قد عوّض بِرضا شديد سلطة الربّ بسلطة الحكومة: "عندما كنّا صغاراً، كنا نتضايق من رقابة الله ولا يعجبنا عندما يخبرنا الكبار أنّ الله يرانا إذا أقدمنا على عمل سيئ. لكن الآن لا يبدو أنّ الإيطالي يتضايق من رقابة حكومة التكنوقراط التي لا تتواني عن إخباره أنّها في كل مكان تراه، وتراقب كل خطواته".
ويذهب الشاعر الإيطالي، فلافيو فيرارو، بعيداً في الملتقى نفسه لتشبيه ما يجري في إيطاليا من فرض رقابة حكومية غير مسبوقة على الأفراد والجماعات، بتحضير لقدوم حُكم "ما بعد الانسان" أو حكم "الدجّال" بمصطلحات المؤمنين على حد تعبيره. إذ لا يتردد فيرارو في استخدام المصطلح الإسلامي (كما ورد باللغة العربية) والمسيحي لوصف هذه الظاهرة التي يرى أنّ أهم تجلّياتها تظهر في الحرب الضروس على المقدّس، والتي أصبحت إيطاليا إحدى أهم ساحاتها في أوروبا، إن لم تكن الأهم على الإطلاق. ولكن لماذا إيطاليا بالتحديد؟
"إنّ ما يضع إيطاليا في مرمى مخطّط إعادة هندسة اجتماعية عالمي هو محاولة تقويض دورها الثقافي والروحي والتاريخي في صناعة الجمال في العالم"، يقول فيرارو. فروما لطالما كانت عاصمة الجمال، والجمال بحسب أفلاطون هو انعكاس للحقيقة. "لذلك نجد مفردة الحقيقة باللغة اليونانية القديمة مرتبطة بعدم النسيان، أي عدم نسيان الإنسان لحقيقته، والجمال الذي يختزنه، ذلك أن الجمال هو جسر للرب. لذلك يحفّز الإيمان على "الذِّكر"، ذِكر الجمال (أسماء الله الحسنى في التقليد الإسلامي)، بينما يحفّز القبح على الغفلة"، يواصل فيرارو.
أصبحت إيطاليا تُصدّر انحطاط الفنّ بعد كورونا
وعن انحطاط الفنّ وتدنّي الذوق الجمالي الذي بدأت إيطاليا بتصديره للعالم مباشرةً بعد أزمة كورونا، لا يمكن عدم ملاحظة فريق "مانسكين" الغنائي الذي فاز بـ "جائزة يوروفيجين" بعد نيله جائزة "مهرجان سان ريمو" وسط ذهول النقّاد الفنّيّين ومحبّي موسيقى الروك في إيطاليا، والذين لم يجدوا في هذا الفريق أي تجديد فني، أو تفرّد إبداعي يؤهّله للحصول على هذه الجوائز والزخم الإعلامي الذي يحيط به. وحيث إن الإشادة التي يحصل عليها "المانسكين" بعد كل عرض تصبّ دوماً على الماكياج والثياب التي يختارها رجال الفريق الغنائي، والمستوحاة من ثياب "اللانجيري" النسائية من حمّالات صدر منوّعة وتخريمات دونتال على سراويلهم الداخلية. وهكذا تحوّلت إيطاليا من إعطاء دروس في الجمال الذكوري من خلال تمثال "دافيدي" لـ ميكيلانجيلو، والذي لا يزال يعتبره نقّاد الفن أعظم الأعمال الفنية التي صنعها الإنسان، إلى إهدائنا في زمن كورونا "المانسكين".
ويبقى أكثر ما يثير استغراب الإيطاليّين في الانحدار الفنّي الذي تعيشه بلادهم هو حصوله على مباركة رسمية، إذ إنّ فيديز وهو مغنّي راب ـ يجمع نقّاد الفن على رداءة الموسيقى التي يقدّمها ـ قد تحوّل إلى شبه ناطق رسمي لحكومات ما بعد كورونا، من حيث إنها أصبحت تدفع به دوماً للواجهة من أجل الترويج لأي قانون جديد ترغب في تمريره. وأمام هذا الوضع الفنّي والثقافي المتدهور، قام مؤخّراً الشاعر الإيطالي البارز جوزيبي كونتي بمشاركة قصيدة شعرية عير حسابه على فيسبوك تهجو "فيديز" قبل أن يقوم بحذفها. والأكيد أن دوّامة القبح التي دخلتها إيطاليا ويستشعرها الجميع في الساحة الثقافية الإيطالية لا تنبّئ بأي خير.
وبالعودة إلى مواقف الشعراء الإيطاليّين الصريحة ممّا يحصل في بلادهم من ضرب قيم الجمال، يُشدّد فلافيو فيرارو، على ضرورة قراءة ما وراء التمظهرات الثقافية والجيوسياسية والاقتصادية لما يلف أحداث العالم: "محاولة ضرب روما الآن هي امتداد لضرب القدس قبلها وضرب أثينا قبل سنوات، مع كل ما يكتنف هذه العواصم من رمزية".
ولكن، بالرغم ممّا يكتنف هذه الأطروحة من "سوداوية"، لا يعكس الموقف الشعري لـ فيرارو أي شعور بالهزيمة أو الضياع، فسيناريو "ما بعد الإنسان" الذي ينتظر البشرية، سيعقبه لا محالة تفتّح للزهر:
"لن يقع ذلك،
وقت تكشّف صباحات المروج،
إلى أن يحضر التاريخ،
في المشرق السحيق للدم.
فثمّة لحظة خارج الزمن
بعيدة عن سجلات الرعب.
أنظر إليهم، الرجال يمرّون.
والبذور التي اختفت،
ها هي تزهر".
شعر فلافيو فيرارو يشكل انعكاساً لروحانية غربية ـ شرقية تنصهر ببعضها، وتنأى بنفسها عن الاستسهال من خلال الخوض في مسلك الصراعات الضدية المسيطر على الفكر الغربي لما بعد الحداثة، حيث يختار الشاعر مسلك "التوحيد" الذي يشذّ عن قاعد الثنائيات المتصارعة:
"الأنهار تعرف مصبّها:
منبعها البحر،
وإلى البحر تعود.
انظر إلى هذه الثمرة
العالية بين الفروع:
البذرة المدفونة في الأرض هي توأمها.
العودة إلى الجذور،
تلك هي السكينة.
لذا عليك أن تضيع:
قبل أن تعثر على من تريد.
هكذا يختفي الحبيب في الحبيب،
حتى يبقى هو وحده
الحبّ".
وحيث يظهر في قصيدة أخرى من ديوانه الأخير "صمت الكهان" تأثُّر الشاعر بالفسلفات الصوفية، والتي يحسن غزلها باقتدار مع الفلسفات الغربية الكلاسيكية:
"مع تمدُّد الصحراء في كل مكان
(تزداد الشفاه انقباضاً)
أتذكّر رقصة الدراويش
وأناشيد الوفرة الخالصة.
نعم، الحب هو دوماً
عُرسٌ مقدَّس،
للكينونة العليا -
بين طالب المعرفة والمعروف.
"وعندها فقط ستتمكن من رؤيته،
عندما لا يصبح من الممكن الحديث عنه"".
فكما يختتم فلافيو قصيدته هذه التي تحتفي بالعشق الإلهي باقتباس من متون هرمس، يفتتح قصيدة أًخرى بـ"مانفانترا"، وهو مصطلح هندوسي يحيل إلى حقبة يحياها الجنس البشري على أربع مراحل مُحيلة إلى "النوموس" بالتعبير الإغريقي في إشارة إلى سنن الكون:
"مانفانترا
كذكرى للناموس
والأرض - واللاثبات
فكل شيء يَحُول
وفي هذا تجد
السكون.
أيُعقل
أنك لا ترى؟
الجمال
وهو يطالب بالعودة".
وبهذا نجد فلافيو فيرارو صوتاً إيطالياً شابّاً اختار أن يخرج عن فكر التيار السائد في إيطاليا، وعلى غرار شعراء كبار من أمثل جوزيبي كونتي صاحب "أناشيد شرق ـ غرب" وكلّ من فهم أن جوهر الكون يأنف من التقسيمات العبثية للعالم، يتّخذ فيرارو له مقاماً شعرياً متفرّداً يكتفي فيه بالاحتفاء بالجمال، حيث يجد الطمأنينة بالتوحّد مع الحقيقة التي لا يزال هناك من هو قادر على رؤيتها مشرقة جليّة، في زمن التهليل للقبح وحكم "ما بعد الإنسان".
يُذكر أن فلافيو فيرارو Flavio Ferraro هو شاعر، ومترجم وكاتب إيطالي من مواليد روما 1984. من بين آخر إصداراته "شر الخير. التقدّمية والمحاكاة الساخرة للتقاليد" (2019)، وترجمة أشعار جون كيتس (2021)، والديوان الذي يضمّ القصائد التي أخذنا عنها الأشعار المترجمة أعلاه "صمت الكُهّان" (2021).