نقَل العدوان الصهيوني على غزّة النضالَ الثقافي الفلسطيني إلى مستوى آخر لم يعد من الوارد في سياقه القبول بأي مواقف ضبابية بشأن قضية الشعب الفلسطيني، حيث رفعت البطولات التي لا يزال يخطّها الغزيون في هذه الأثناء من درجة اليقظة لناحية السرديات المحيطة بالعدوان بما يتناسب وحجم التضحيات.
وقد رفضت مؤخراً مؤسّسات ثقافيّة فلسطينية مِنحاً مالية من "مؤسسة المجتمع المنفتح" لصاحبها جورج سوروس، بسبب ما وُصف في بيان مشترك لشبكة "الفنون الأدائية الفلسطينية" و"مركز خليل السكاكيني" الثقافي، أنّه محاولةٌ من هذه المؤسّسة وغيرها "شراء مواقف مؤسَّسات المجتمع المدني الفلسطيني (...) عبر تسويقها للعنف المُمارس على أبناء شعبنا بلغةٍ مراوِغة لا تدين بشكل واضح الإجرام الإسرائيلي".
البيان الذي كشفَ عن إدراك للحظة التحرّر الكبيرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، أبان عن وعي بخطورة حرب السرديات الدائرة رحاها في الغرب، والتي من شأن أصغر انحراف فيها عن الرواية الفلسطينية أن يشكّل منفذاً من أجل الطعن في مقاومة مشروعة تكفلها المواثيق الأمميّة لأي شعب مُحتلّ.
ومن ذلك ما عرفته إيطاليا قبل أسابيع وانتهى على نحو سريالي بخلق عملية تماهٍ صريحة بين حركة سياسية مُعترف بها من كامل أطياف الشعب الفلسطيني "حماس"، و"المافيا" الإيطالية. فما الذي حصل؟
خلط سريالي خبيث بين مقاومة فلسطين والمافيا الإيطالية
بدأ كلُّ شيء عندما خرجَت صحافيّة إيطالية من أصل فلسطيني على القناة السابعة الإيطالية، بعد أيام قليلة من بدء العدوان الصهيوني على غزّة، للتنديد بالحرب الإسرائيلية على القطاع والجرائم التي المرتكبة بحقّ الفلسطينيّين، وتساءلت بألم "إن كان يجوز للحكومة الإيطالية أن تقصف مدينة باليرمو وتبيد الصقليين من أجل القضاء على المافيا؟".
المثال الذي أتى في غمرة البكاء على النساء والأطفال الفلسطينيين جعل المتابعين الإيطاليين يخلصون لنتيجة منطقية واحدة مفادها أنّنا أمام معضلة إنسانيّة كبيرة لشعب تختطفه منظّمة إجراميّة متغلّغلة في نسيجه الاجتماعي، ويعيش علاوة على ذلك تحت قصف يوميّ من دولة تقودها حكومة يمينية متطرّفة عازمة على التخلّص من العصابة التي تعيش على حدودها، لكن على نحو تعوزه الحكمة.
خطورة هذه السردية التي تعمد لخلط كلّ الأوراق تكمن في توظيفها تقنيّة البكاء واستخدام أسلوب التعاطف الذي لعب دور حصان طروادة خلال هذه الحرب، وقد مرّر الكثيرون من خلاله أطروحات معادية للشعب الفلسطيني ومقاومته ضمن خطاب إعلامي مدروس ومركز.
"شقيقة زعيم حماس خارج القضبان: لقد انتصرنا"، هكذا عنونت وكالة الأنباء الإيطالية تقريراً عن تحرير الأسيرة الفلسطينية حنان البرغوثي، لمراسلها في قرية كوبر بتاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي كان ليمر مرور الكرام لو جرى اختيار مفردة أخرى في العنوان غير "boss"، والتي تشير باللغة الاصطلاحية للمافيا الإيطالية إلى الزعيم الذي يجري انتخابه من العائلات المافيوزية لقيادة عمليّاتها والإشارة في المقال إلى عميد الأسرى الفلسطينيّين نائل البرغوثي.
التقرير الذي حرص على نقل السردية الفلسطينيّة على لسان الأسيرة المحرّرة في سطرين، عمد في بنائه الكلّي لخلق صور ذهنيّة مباشرة بين المافيا الإيطالية والمقاومة الفلسطينية، من خلال خطاب ركّز على وصف لغة جسد سيّدة محافظة تتمتّع بعنفوان فائق وثبات انفعالي، تُظهر اعتزازَها الشديد بأرضها وعائلتها التي لم يتبقّ منها أي رجل خارج القضبان سوى فرد واحد فقط لا غير.
وهذه معلومات أوردها المقال على نحو سينمائي لا يشفّ عن أي ملمح إنساني أُريد من خلالها تصوير أجواء مافيوزية ظهرت فيها لحظة إطلاق سراح أسيرة فلسطينية وكأنّها لحظة نصر لعائلة راسخة في الجريمة المنظّمة، لا يزال عناصرها الأوفياء ينشطون في غزّة ويلتزمون بتحرير أفراد عائلات زعمائهم الذين أورد المقال أسباب سجنهم بالتفصيل (جرائم قتل واغتيال) مع تعمّد استخدام مصطلحات تُظهر الوجه المؤسّساتي النظامي لـ "إسرائيل" (محكمة، شرطة، رجال أمن) في مقابل أفراد كاريزماتيين ينتمون إلى تنظيمات خارجة عن القانون ويظهر عليهم وعلى أفراد عائلتهم كبرياء بالغ، وقدرة كبيرة على ضبط الانفعالات، والتزام ديني. وهذه كلّها تفاصيل يقرنها الإيطالي بأسلوب حياة وتقاليد عائلات المافيا المتجذّرة في الجنوب الإيطالي.
"ستنتهي المافيا عندما تختفي العائلة" هكذا يقول صاحب "غومورا" روبيرتو سافيانو، والأمر لا يتعلّق بنكتة، وإنّما بتصريح حقيقي أثار قبل سنتين لغطاً واسعاً أتى ضمن الأطروحة التي ذكر فيها الصحافي الإيطالي ذو التأثير الكبير في مقال على "الكورييري ديللا سيرا" أنَّ الالتزام الجنسي هو المعيار الأساسي الذي تلجأ إليه العائلات المافيوزية لقياس درجة أمانة وموثوقية رجالها. ويرى سافيانو بذلك ضرورة تفكيك الأسرة من أجل تفكيك المافيا، وهو الذي كان قد ذكر في "غومورا" على لسان أحد شخصياته: "لو لم يوجد مفهوم العائلة لما وُجد مفهوم العصابة الإجرامية".
وسائل الإعلام التقدميّة الكُبرى في إيطاليا، ومنذ صياغة هذه النظرية، لم تتأخّر عن واجبها في مكافحة الجريمة المنظّمة ولم تكفّ من يومها عن نشر نماذج لعائلات غير تقليدية تخرج علينا بشكلٍ شبه يومي بعناوين عريضة من قبيل "رجل تزوّج سيارته" وآخر "يكتشف أن زوجته تمارس الجنس مع ابنه"، و"في عيد الأم أهدوا أمهاتكم ألعاباً جنسية". وهي عناوين وردت نصاً في صحف كبرى خلال عام 2023، ضمن خطاب ثقافي يرمي لهدم أُسس الفكر المافيوزي بحسب سافيانو ذلك أنَّ: "الحياة الجنسية المتحرّرة من القيود، والجسد الذي لا يخضع لسيطرة التقاليد هو عمل مناهض للمافيا. بل هو العمل المناهض للمافيا بحق".
سافيانو الذي يقدّم نفسه على أنّه الخبير الأول في شؤون المافيا وطُرق دحرها، يُعرف عنه دعمه المُطلق لـ"إسرائيل" منذ زمن، ولولا ذلك لجرت استشارته على نحو مكشوف لإسداء النُصح المباشر للشعب الفلسطيني، من أجل التحرّر في هذه الأيام من "مافيا حماس التي استغلّت القطاع"؛ وهو عنوان لتقرير نشرته "الكورييري ديللا سيرا" بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لم تسقط منه نبرة التعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي أظهرته الصحيفة، ضحيةً لعمليات "تخويف وابتزاز" من "هيكلية مافيوزية متغلغلة بعمق في القطاع".
بعد هذا المقال لم تتأخّر علينا كثيراً جماعة نسوية ذات أطروحات "سافيونية" ببيان تضامني مع الشعب الفلسطيني أرفقه إعلان عن تظاهرة مؤيّدة لفلسطين بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة العنف ضد المرأة، تناقلته كلّ وسائل الإعلام الإيطالية الكبرى والصغرى، المرئية والمسموعة والمقروءة، ولم يبق أي سياسيّ من اليمين أو من اليسار أو من الوسط دون أن يعلّق عليه وعلى المظاهرة الكبيرة المرتقبة المناصرة لفلسطين.
ما هي دلالات هذا "التضامن" القبيح مع الشعب الفلسطيني؟
فالأمر يتعلّق بشبكة جمعيات نسوية مؤثّرة تستلهم أفكارها من منظِّرات الموجة الثانية للنسوية الراديكالية كشولاميث فايرستون، الداعية لهدم مفهوم العائلة التقليدية على طريقة سافيانو: "طابو سِفاح القربى لا يراد منه سوى الحفاظ على الأسرة. إن نحن تخلّصنا من الأسرة، فلن يكون هناك أي ضرر من ممارسة الولد للجنس مع أمه".
وهكذا خرجت علينا نسويات هذه المنظمة يوم 25 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي في مظاهرة مؤيدة "لتحرّر" الشعب الفلسطيني، حطمن خلالها مقر جمعية Pro Vita e Famiglia (مع الحياة والأسرة) بروما؛ وهي جمعية وطنيّة كبيرة تعمل على مساعدة العائلات وتوعية النساء من خطر الإجهاض، ما حظي بتغطية واسعة من وسائل الإعلام الإيطالية التي رصدت أوّلاً بأوّل تظاهرات النسويات الداعمات لفلسطين وما تخلّلها من عمليات تخريب لمقرّ جمعية تستقي قيمها من تقاليد الشعب الإيطالي الكاثوليكية المحافظة.
فما دلالة هذا التضامن القبيح مع الشعب الفلسطيني وما الرسالة من وراء تخريب مقرّ جمعية تُعنى بالحفاظ على الأسرة وربطها بالدعوة لتحرير الشعب الفلسطيني؟ أسئلة ثارت في ذهن كثيرين ودفعت بمقدّم برنامج Punto e Accapo على إذاعة Radio Radio ليتساءل بحيرة: ما الذي يجمع بحق السماء هؤلاء "النسويات المخبولات" بالشعب الفلسطيني؟
عن هذا السؤال قد تُجيبنا سلاسل التمويل التي كشفت عنها في السنوات الأخيرة، تقارير متواترة في الصحافة الإيطالية تُظهر ارتباط جمعيات نسويّة عديدة، ومعها منظمات غير حكومية خاصّة بالمهاجرين وحقوق الحريات الجنسية، ووسائل إعلام، بل حتى جامعات ومراكز بحث، بجهات تمويل واحدة، وكلّها مؤسسات ذات ارتباطات مع جمعيات مُساندة للقضية الفلسطينية.
فهل يقودنا كلُّ هذا لفهم مواقف النخب الإيطالية التي نظّمت معظم الفعاليات الثقافية والفنيّة الخاصّة بفلسطين طيلة السنوات الأخيرة، لكنها اختارت أن تنحاز خلال هذا العدوان ضد المقاومة، مع التزامها بواجب البكاء على الشعب الفلسطيني؟
الأكيد أن رفض المؤسّسات الثقافية الفلسطينية الأخير لتمويل "مؤسسة المجتمع المنفتح" أتى كصفعة لجميع من يعتقد أنه قادر على "شراء الصوت الفلسطيني" أو الحديث باسمه مُنكِراً "أحقّيته في مقاومة الاحتلال بكافّة الوسائل المشروعة"، ليجد الفلسطينيون اليوم أنفسهم يحاربون على جبهات الاستعمار الحديث والإمبريالية الثقافية ابنة الرأسمالية ومعها استعمار عسكري همجي لن يدوم طويلاً أمام مقاومة أسطورية لشعب يسطّر بطولات عملاقة كل يوم على طريق الاستقلال.
وفي ظلّ هذا كله يعيش العالَم الذي فقد بوصلته الأخلاقية، عبودية مخزية لـ"ديو دينارو" (المال الرب)، كما يقول بحسرة الإيطاليون. فمن يجدر بنا أن نبكي بحق عليه؟
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا