إيفو أندريتش وتيتو: تقلّبات السياسة والأدب في البلقان

09 اغسطس 2021
تيتو وأندريتش في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1962
+ الخط -

في خريف 1961، عاشت يوغسلافيا التيتوية مجدها السياسي والثقافي بانعقاد أوّل قمّة لعدم الانحياز في بلغراد؛ حيث جاء زعماء العالم الثالث (هيلاسلاسي، ونهرو، وسوكارنو، وعبد الناصر وغيرهم)، وفوز أوّل روائيّيها، إيفو أندريتش، بجائزة نوبل للآداب.

وفي الذكرى الستين لحصول أندريتش (1892 - 1975) على هذه الجائزة، التي جعلت منه كاتباً معروفاً في العالم، صدرت في سراييفو الطبعة الثانية من كتاب الألماني المتخصّص في يوغسلافيا السابقة، مايكل مارتنس، "في حرائق العالم. إيفو أندريتش: حياة أوروبية"، والذي حظي باهتمام كبير مع صدوره عام 2019 لما حفل به من تفاصيل جديدة عن الخلفية السياسة لأندريتش، والتي يمكن معها فهم "معجزة" تكيّفه مع وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة، وحتى انضمامه إلى الحزب وتدبيج المقالات والخطب في مدح تيتو وستالين (إلى 1948) والنظام الاشتراكي الجديد في البلاد.

عاشت يوغسلافيا كدولة أقلّ من مئة سنة، تحوّلت فيها من ملكية (1918 - 1941) إلى "ديمقراطية شعبية" (1945 - 1966) تحت قيادة متشدّدة تجاه معارضيها تراخت بالتدريج لتتحول عام 1974 إلى شبه كونفدرالية آلت إلى الفشل بعد رحيل تيتو في 1980، لتنتهي بعد عدّة حروب إلى سبع دول مستقلّة. وخلال سنوات وعقود الصعود والهبوط، بقيت من تاريخ يوغسلافيا رموز مخضرمة منها ما تكيّف مع كل سلطة في يوغسلافيا خلال وجودها كما هو الأمر بالنسبة إلى أندريتش، ومنها من أسّس لدولة جديدة انهارت بعد وفاته؛ كما هو الأمر بالنسبة إلى تيتو، ومنها من انشقّ عن قمّة النظام الجديد في عالم السياسة والأدب، كما هو الأمر بالنسبة إلى ميلوفان جيلاس.


أندريتش السياسي

في هذا السياق، لدينا محطّة فارقة في 1937؛ حين عاد جوزيف بروز تيتو من المنفى ليعيد تنظيم الحزب الشيوعي في البلاد، بعدما تعرّض إلى حملة ملاحقة شرسة من قبل النظام الملكي الذي أخذ يقترب بالتدريج من ألمانيا النازية. وكان إيفو أندريتش، بعدما نشر آخر مجموعة قصصية له في 1936، قد برز في عالم السياسة وصعد بسرعة ليصبح الرجل الثاني في وزارة الخارجية، بل الأوّل، لأن وزير الخارجية كان يشغل أيضاً رئاسة الحكومة وكان يعتمد عليه في تسيير الخارجية. وخلال شغْل أندريتش لهذا الموقع، حدث التقارب بين يوغسلافيا الملكية وألمانيا النازية ورُشّح في 1939 ليقدّم أوراق اعتماده إلى هتلر سفيراً لملك يوغسلافيا في برلين، وبقي هناك بين 1939 و1941.

لم يحظ باحترام تيتو بسبب ماضيه السياسي وتملّقه له

ولكنَّ إعلان الوصي على العرش، الأمير بول، انضمام يوغسلافيا إلى دول المحور في 25 آذار/ مارس 1941 أدّى إلى مظاهرات عمّت شوارع بلغراد بمشاركة القوميّين الصرب والليبراليّين والشيوعيّين ضد القرار، ممّا مهّد لقيام انقلاب عسكري قاده الضبّاط الصرب في السابع والعشرين من آذار/ مارس 1941، والذين أعلنوا خلع الأمير بول والانسحاب من دول المحور. وقد أغضب هذا الانقلاب هتلر ودفعته إلى اجتياح يوغسلافيا في 6 نيسان/ أبريل 1941 بقوّة مدمّرة وتقسيمها بين حلفائه (إيطاليا وبلغاريا وهنغاريا) ومتعاونين معه.

وهكذا عاد أندريتش إلى بلغراد بعدما سقطت "مملكة يوغسلافيا"، حيث غدت صربيا تحت الإدارة العسكرية الألمانية، فآثر أن يعيش في منزله بشارع بريزرن ليتفرّغ لإنجاز رواياته الثلاث التي صنعت شهرته لاحقاً ("جسر على نهر درينا" و"وقائع مدينة ترافنيك" و"الآنسة")، دون أن يهتمّ بالمعارك الدائرة في الخارج بين قوّات "البارتيزان" التي تُمثّل يوغسلافيا القادمة وبين القوّات "المتعاونة" مع ألمانيا النازية.

ولكن مع انتصار قوات "البارتيزان" بقيادة الماريشال تيتو (كما أصبح يُعرف)، تأسّست "يوغسلافيا الثانية" كجمهورية فيدرالية تمثّل الاعتراف بالمكوّنات القومية المتعدّدة. ولكن "الديمقراطية الشعبية" التي استُلهمت من "المثل الأعلى" (الاتحاد السوفييتي في طبعته الستالينية) عبّرت عن عنف لا يرحم تجاه أعداء الأمس من ملكيّين وبورجوازيّين ومتعاونين مع النازية والفاشية، حتى أنّ الأسابيع الأخيرة من 1944 غيّبت عشرات الألوف من "أعداء الشعب" تحت التراب أو في السجون.


أندريتش الروائي
في هذا السياق، كان مصير أندريتش مفتوحاً على كلّ الاحتمالات: كان يمكن أن يلحق بغيره من مسؤولي أو كتّاب "العهد الملكي البائد" ما بين الإعدام أو السجن أو التكيّف السريع مع حكم الحزب الشيوعي. وحسب الشهادات واليوميات والمذكّرات التي جمعها المؤلّف لأصدقاء أندريتش القدامى والجدد (الذين أصبحوا في قمّة السلطة الجديدة)، يمكن تفسير "المعجزة" التي حدثت بأمرين اثنين: استعداد أندريتش للتكيّف السريع مع النظام الجديد بحكم طبيعته لكي يكتفي هذه المرّة بدور الكاتب الروائي، وحاجة كلّ طرف للآخر. فقد كان النظام الجديد قد أعدم أو سجن في محاكم سريعة العديد من الكتّاب المعارضين لتعزيز سلطته، ولكنه كان يحتاج إلى "تعاون" كتّاب معروفين، حتى يقدّم صورة مختلفة عنه في الداخل والخارج، ووجد كلَّ الاستعداد لذلك لدى أندريتش. 

مع انتصار "البارتيزان" في الحرب وانبعاث يوغسلافيا من جديد، والتي كان أندريتش من دعاتها منذ أن كان طالباً في المدرسة الثانوية في سراييفو، بدا أن أندريتش مستعدّ للتعاون مع السلطة الجديدة التي فتحت له باب الأدب من جديد ليبرز الآن كاتباً مهمّاً على المستوى اليوغسلافي بعد أن نشرت له السلطة الجديدة ثلاث روايات دفعة واحدة خلال 1945: "جسر على نهر درينا" و"وقائع مدينة ترافنيك" و"الآنسة"، ورشّحه الحزب الشيوعي ليصبح رئيساً لاتحاد كتّاب يوغسلافيا في خريف 1946، وهو ما دفعه إلى التعبير عن شكره لـ"المعلّم تيتو". وبهذه المناسبة استقبَل تيتو لأوّل مرّة أندريتش على رأس وفد الاتحاد الجديد الذي تشكَّل على نمط ما هو موجود في أوروبا الشرقية. وفي هذه المناسبة أشار تيتو إلى أنه يجب أن يتمتّع كلّ الكتاب اليوغسلاف بحرية التعبير بشرط ألّا ينشروا "ما يُضرّ".

انحسر وجوده إلى صربيا وجمهورية الصرب في البوسنة

ولم يقصّر أندريتش في الشهور اللاحقة في تدبيج المقالات في مدح تيتو وستالين إلى أن حدث الخلاف الكبير بين الأخيرَين في 1948، ممّا أدى بتيتو إلى الانشقاق عن المعسكر الاشتراكي والتوجُّه نحو العالم الثالث، وهو ما أسفر عن تعزيز علاقة جديدة بين يوغسلافيا التيتوية ومصر الناصرية. وفي هذا السياق نُشرت في القاهرة عدّة كتب عن تجربة يوغسلافيا وصدرت ترجمة عربية لرواية أندريتش "جسر على نهر درينا" بترجمة سامي الدروبي عن الفرنسية، وفتحت مصر أبوابها للترحيب لاحقا بإيفو أندريتش في زيارة شملت التعرّف على آثار مصر من شمالها إلى جنوبها.


أندريتش وجائزة نوبل
ولكن في يوغسلافيا نفسها كان قد برز جيل جديد من الكتاب على رأسهم ميروسلاف كرليجا (1893 -1981) الذي كان ينافس أندريتش بأعماله المتنوعة وسعة أفقه الانساني وانفتاحه على المكوّنات المختلفة في يوغسلافيا، ممّا جعل اتحاد أدباء يوغسلافيا يرشّح الاثنين معاً لجائزة نوبل للأدب في 1958. ولكن عندما قرّرت لجنة الجائزة منحها لأندريتش في 1961 كانت هناك أصوات صامتة ومسموعة لاحقاً تقول بتحيّز اللجنة وبأن كرليجا كان أكثر استحقاقاً لها، ورحل لاحقاً دون أن ينالها. ومن هؤلاء كان تيتو نفسه الذي كان يقدّر كثيرا أدب كرليجا ويخوض معه في أحاديث عميقة خلال زياراته المتكرّرة، بينما لم يكن يحمل النظرة ذاتها إلى أندريتش بسبب ماضيه في يوغسلافيا الملكية وتملّقه له.

إلّا أنّ الإعلان عن فوز أندريتش بالجائزة واستقبال ملك السويد غوستاف السادس له أرغم تيتو على أن يستقبله أيضاً في مقر الرئاسة في بلغراد. في البداية رفض تيتو بشدة الاقتراح قائلاً: "كيف يمكن هذا، إنّ هذا سيؤذي كرليجا، إنه هو الذي يستحق الجائزة وليس أندريتش". ولكن مستشاريه والكاتب المعروف دوبريتسا تشوسيتش (1921 - 2014)، الذي سيتحوّل لاحقاً إلى معارض كبير له باسم القومية الصربية، تمكّنوا من إقناعه بضرورة استقباله لأندريتش لكيلا يُساء فهم ذلك في العالم.

ايفو اندريتش

وهكذا قبِل تيتو مرغماً أن يستقبل أندريتش في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1962، ولكن اللقاء وما دار فيه كان يعبّر عن برودة العلاقة بين الرجُلين. كان من عادة تيتو عندما يستقبل ضيفاً في الساعة الثانية عشر أن يمدّ الحديث إلى وقت الغداء، ولكن في ذلك اليوم أنهى الحديث المفتعل بعد ساعة في حركة يُفهم منها أنه لا مكان للضيف على الغداء معه. وكما سجّل الكاتب تشوسيتش في يومياته فقد "نهض تيتو من مقعده في تمام الساعة 12 ونهضنا معه وتصافحنا مع الابتسامات الكاذبة التي تشي بالسرور".

كان الحديث في هذا اللقاء لا يرتقي إلى الحدث والمجال (فوز أندريتش بجائزة نوبل في الأدب)، بل كان ينتقل من موضوع إلى آخر دونما رابط. فقد بدأ أندريتش الحديث عن ضرر الدخان، ونصحه تيتو بأن يدخّن السيجارة إلى منتصفها لأن النيكوتين يتجمع في النصف الآخر، ثم انتقل الحديث إلى آثار مصر بمناسبة عودة أندريتش من زيارتها. فقد بدأ أندريتش الحديث عن الأقصر وكثرة السياح الإنكليز والأميركان فيها، ولكن تيتو الذي كان قد زار مصر أيضاً قال إنّ الحرارة عالية هناك، ثم قال إن نقل معبد أبو سمبل من مكانه لأجل الاستمرار في بناء السد العالي "مشروع غبي" نظراً لأن مصر غنية بآلاف التماثيل. وقد وافقه أندريتش بالقول إنه في مصر آلاف التماثيل من القاهرة إلى الأقصر، ولذلك لم ير ضرورة لإنفاق "دينار واحد" لأجل نقل المعبد!


ما يجمع ويفرّق تيتو وأندريتش
كان ما يجمع بين الرجلين أنهما كرواتيان وُلدا في السنة ذاتها (1892) وانخرطا في السياسة مبكراً، حيث كان أندريتش عضواً في جمعية "البوسنة الفتاة" التي اغتال بعضُ أصدقائه فيها وليَّ عهد النمسا في سراييفو في 28 حزيران/ يونيو 1914، وهو ما أدّى إلى سجن أندريتش للشكوك في تورّطه في الاغتيال، بينما انخرط تيتو في الحزب الشيوعي وسُجن لاحقاً. كان ما يجمع بينهما أيضاً فكرة يوغسلافيا التي تأسّست أخيراً في نهاية 1918، ولكن ما يفرق بينهما فهم النظام الأفضل لها. فقد آمن أندريتش بيوغسلافيا ملكية تحت حكم سلالة كاراجورجفيتش الصربية، التي كانت ترمز إلى تحكّم الصرب فيها حتى أنه غيّر هويته القومية من كرواتية إلى صربية لكي يصعد في سلم النظام الملكي، بينما سعى تيتو لتفكيك تحكّم الصرب فيها باختيار نظام جمهوري فيدرالي يعبّر عن مشاركة الشعوب الأخرى، وهو ما سمح لأول بوسنوي مسلم (جمال بيديتش) أن يصبح رئيساً للوزراء خلال (1971 -1977) وأن يصبح أوّلُ ألباني (سنان حساني) رئيساً ليوغسلافيا بعد وفاة تيتو (1985 - 1986).

بعد تشظّي يوغسلافيا الفكرة والدولة، لم يعُد هناك تماثيل وأسماء شوارع لتيتو وأندريتش في كل مكان، بل بقي هناك ضريح تيتو في بلغراد الذي يزوره العشرات في عيد ميلاده 25 أيار/ مايو من كل عام، وانحسر وجود أندريتش إلى صربيا وجمهورية الصرب في البوسنة، حيث خرج زعماء الصرب هناك بتفسير جديد هذه الأيام عن أعمال أندريتش يقول إنّ "الكره الموجود بين الإثنيات في البوسنة هو جزء من طبيعة البلاد"، ولذلك اقترح زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، حسب ما أوردته الجريدة البلغرادية المعروفة "داناس" في الرابع من الشهر الجاري، أن يتم تقسيم البوسنة إلى ثلاث دول مستقلّة، لأنه لم يعد هناك مجال للتعايش في دولة واحدة! 


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون