كثيراً ما يشعر من يستمع إلى الأغاني التركية بأنها تذكّره بلحن أو جملة موسيقية ما من أغنية عربية، ويتبادر إلى ذهنه سؤال حول أصل هذا اللحن أو الجملة، ويحدث الأمر نفسه مع التركي الذي يستمع إلى الموسيقى العربية. وانطلاقاً من سؤال: "من تأثّر بِمَن؟" بدأ الباحث التركي مراد أوزيلدريم، المختص في الموسيقى العربية وتاريخها، كتابه الذي صدر بالتركية عن دار نشر "باغلام" عام 2013، بعنوان "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين".
يؤكد أوزيلدريم في مقدّمة كتابه أن التفاعُل الثقافي بين العرب والأتراك هو نتيجة طبيعية للتاريخ المشترَك بينهما والجغرافيا أيضاً، وأنَّ محاولات الحكومات آنذاك عزلَ العالمين العربي والتركي عن بعضهما البعض، لم تنجح مع الفنون، وتحديداً الموسيقى. كما يؤكّد على قِدَم هذه العلاقات، التي تعود إلى ما قبل الإمبراطورية العثمانية بكثيرٍ، حيث يرى أن التّأثُّر الموسيقي بينهما يعود إلى زمن بعيد أيضاً. وفي هذا السياق، يذكر أن السلطان مراد الرابع قد أحضر معه موسيقيّين مِن بغداد إلى إسطنبول في القرن السابع عشر.
ويُرجع الباحث أسباب التشابه بين الموسيقى العربية وتلك العثمانية إلى استخدامهما لنفس المقامات، وإلى التكايا الصوفية التي انتشرت في الأراضي العثمانية، ولعبت دوراً مهمّاً في توحيد الموسيقى، إلّا أن العلاقات الموسيقية العربية التركية قد بلغت ذروتها، بحسب أوزيلدريم، في القرن التاسع عشر، عندما كانت تُقام الحفلات المشتركة في مصر وسورية والعراق؛ حيث كان يُدعى الفنانون الأتراك إلى هذه البلاد حتى بعد إقامة الجمهورية التركية. ومن بين أبرز أسماء هؤلاء الفنانين الأتراك الذين أقاموا حفلات في أكثر من بلد عربي: جميل بك الطنبوري، وحافظ سامي، ومنير نور الدين سلجوق، وموزين سانار.
منع أتاتورك الموسيقى الشرقية بحجة "تحديث" المجتمع
وبالرغم من أن القاهرة أبعد إلى إسطنبول من دمشق وبغداد، إلّا أن أوزيلدريم يرى أن أكثر المدن العربية تأثّراً بالموسيقى العثمانية هي القاهرة، نظراً للعلاقات القديمة بين المدينتين، واهتمام أسرة محمد علي بتعريف المصريين بالثقافة العثمانية، وفي مقدّمتها الموسيقى. وفي سياق العلاقات الثقافية بين القاهرة وإسطنبول، يشير الباحث إلى المشاركة التركية في "المؤتمر الأول للموسيقى العربية" الذي عُقد في القاهرة عام 1932، حيث شارك مسعود جميل بك ورؤوف يكتا بك. ويتطرق إلى النقاشات الموسيقية التي تمّت أثناء المؤتمر، وإلى الكتاب الذي أصدره يكتا بك عن الموسيقى في القاهرة باسم "مطالعات وآراء". إلا أن أوزيلدريم يرى أن المؤتمر لم يحقّق النتائج المنتظرة منه رغم نقاشاته المهمّة، بسبب عدم التخطيط للتعاون الموسيقي الجاد بعد المؤتمر.
ومن أبرز المسائل التي ركّز عليها الباحث في كتابه أيضاً، مسألة منع الموسيقى الشرقية في تركيا، ضمن الإجراءات التي اتخذها أتاتورك في سياق "تحديث" المجتمع، مثل استبدال الحروف العربية باللاتينية. ويذكر أنّ الموسيقى الشرقية مُنعت بشكل تدريجي بعد نقاشات عديدة؛ فمنذ عام 1926، أُغلقت أقسام الموسيقى الشرقية في المعاهد والمدارس الموسيقية التركية، إلّا أنّ هذا لم يمنع المطربين العرب من إحياء حفلات في تركيا بعد ذلك، وأكبر دليل على ذلك، وفقاً للباحث، هو إقامة الفنانة منيرة المهدية حفلاً غنائياً في إسطنبول عام 1928، بحضور أتاتورك نفسه، ومدحت أتاتورك في أغنية، كُتبت له بشكل خاص. وقد استدعاها بعد الحفل ليشكرها وينصحها بأن تتعلّم الموسيقى الغربية حتى يصل صوتها إلى العالم كلّه.
عُرف عن أتاتورك اهتمامه بالموسيقى التي اعتبرها معياراً للحضارة، إلّا أن أوزيلدريم يرى أن اهتمام أتاتورك بالموسيقى الغربية كان جزءاً من مشروعه الأيديولوجي؛ فقد كانت الموسيقى الشرقية مرتبطة بالحزن في ذهنه، وفي أكثر من سياق، كان يقول إن تركيا الجديدة لم تعد تناسبها موسيقى الحزن، وعلى الأتراك أن يفرحوا ويعتزّوا بجمهوريتهم الجديدة.
يتعرض الباحث أيضاً إلى الخلافات التي وقعت بين المثقّفين الأتراك في منتصف الثلاثينيات حول الموسيقى الشرقية بين مؤيدٍ لها ومطالب بمنعها. ويشير الكتاب إلى أن الحملة التي شُنّت على الراغبين في الحفاظ على الموسيقى الشرقية كانت كبيرة، حيث اتُّهم أصحاب هذا الرأي بـ"الرجعية" بل وبمعاداة الجمهورية الجديدة أيضاً. ومع حلول عام 1934 مُنعت إذاعة الموسيقى الشرقية في الراديو بقرار رسمي. اللافت للانتباه في هذا الأمر، بحسب أوزيلدريم، أنّ صحيفة "البلاغ" المصرية التي كان يرأسها عبد القادر حمزة، أيّدت في أكثر من مقال قرار منع الموسيقى الشرقية، وطالبت بمنعها في مصر أيضاً.
إلّا أن الباحث يرى أنّ هذا القرار لم يمنع استمرارها في الأماكن العامّة. ومن أبرز الأسماء الفنية التي ظهرت في هذه المرحلة واعتمدت الموسيقى الشرقية، منير نور الدين سلجوق، وحَامِيات يوجاسس، مضيفاً أنّ قرار منع هذه الموسيقى كان سبباً في تعرُّف الأتراك على الموسيقى المصرية بشكل غير مباشر، لأنهم وجدوها قريبة منهم، وعثروا عليها من خلال محطات الراديو المصرية. وقد تعرف قسم كبير من الأتراك في هذه المرحلة على أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب.
يسلّط الكتاب الضوء أيضاً على رحلات بعض الموسيقيين الأتراك إلى مصر في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الموسيقار زكايي داده أفندي، وعلي بك الأندروني، وولي أفندي، وذهاب موسيقيين مصريين إلى إسطنبول أيضاً، مثل يوسف المنيلاوي وعبده الحامولي اللذين اصطحبهما الخديوي إسماعيل إلى إسطنبول بصحبة مشاهير العازفين المصريّين للغناء أمام السلطان عبد الحميد، الذي أعجب بهما كثيراً. وبحسب أوزيلدريم، فإن الحامولي قد تعرّف على كثير من الموسيقيين الأتراك خلال فترة إقامته في إسطنبول، ونقل كثيراً من الألحان التركية، بل والكلمات أيضاً، إلى أغانيه بعد عودته إلى مصر. وتُعدّ هذه الزيارة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أول تاريخ معروف لتفاعُل الموسيقى العربية التركية في العصر الحديث.
وفي إجابته عن سؤال: "مَن تأثّر بِمَن؟"، يرى أوزيلدريم أن التأثير كان متبادلاً طوال الوقت بين الطرفَين؛ ففي الوقت الذي تعترف فيه فتحية أحمد، مثلاً، في أكثر من لقاء بأنها تغنّي حسب الأصول التركية وأنها تعي ذلك جيداً، كان هناك مغنّون أتراك يغنّون وفق الأصول العربية؛ مثل بيان سعدات، ومحمد فخري كوبوز، وإسماعيل صفاي أولجاي. ولم تكن إقامة الحفلات الغنائية للمطربين الأتراك في القاهرة شيئاً مستغرباً، فقد أقام الفنان نيزان توفيق العديد من الحفلات فيها بدءاً من عام 1902، وأيضاً منير نور الدين سلجوق، ورفيق فارسان، الذي تعرف خلال إقامته بالقاهرة على أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وآخرين، ودار بينهم الكثير من النقاشات حول الموسيقى العربية والتركية.
يخصّص أوزيلديريم فصلاً للمجلات الفنية ودورها في التبادل الموسيقي، فمن أبرز المجلات التركية التي أعطت مساحة للمطربين العرب هي "دنيا الراديو" و"المصوّر" و"المجلّة الجديدة". أجرت "المصوّر" حواراً مع أم كلثوم عام 1938 حول فيلمها "وداد"، وعلاقتها بالموسيقى التركية. وقد عبّرت أم كلثوم، في هذا اللقاء، عن إعجابها الشديد بالموسيقي التركي جميل بك الطنبوري وتأثّرها الكبير به، وأعربت عن رغبتها في زيارة إسطنبول. كما أجرت "المجلّة الجديدة" حواراً مطولاً معها عام 1940 حول حياتها ورؤيتها للموسيقى التركية والعربية. وفي المقابل، أجرت بعض المجلّات المصرية عدداً من اللقاءات مع مغنّين أتراك؛ ففي عام 1950 أجرت مجلّة "آخر ساعة" لقاءً مع الفنانة صفية أَيْلا حول علاقتها بالموسيقى العربية.
عبّرت أم كلثوم عن إعجابها بجميل بك الطنبوري وتأثّرها به
يستعرض الباحث، في كتابه، أيضاً دور الأفلام المصرية الغنائية في التفاعل الموسيقي العربي التركي، بعد انتشارها بشكل كبير في تركيا، وخصوصاً بعد قرار منع الموسيقى الشرقية. واللافت للانتباه هنا بحسب الباحث، أن تركيا أنتجت ما بين عامي 1936 و1944 سبعة عشر فيلماً تركياً، بينما تَرجمت ستة عشر فيلماً مصرياًّ إلى التركية، من بينها: "دموع الحب"، و"أحلام الشباب"، وغيرهما. ويذكر أوزيلدريم مدى انزعاج حكومة أنقرة من هذا الأمر، حتى إنها منعت عرض الأفلام المصرية بدون دبلجة إلى التركية عام 1942، بدعوى أنها تُبعد الأتراك عن ثقافتهم في مدن الجنوب التركي، التي تشهد وجوداً لأعداد كبيرة من أصول عربية، وتقرّبهم أكثر من الثقافة العربية.
يتطرّق الكتاب أخيراً إلى فكرة استلهام بعض الموسيقيّين الأتراك لألحان أو جمل موسيقية لأغانٍ عربية وكتابة كلمات بالتركية لها، ويفسّر أوزيلدريم هذا بأنّ حاجز اللغة جعل محبّي الأغاني العربية غير قادرين على حفظها وترديدها، مثلما حدث مع أغنية "عندما يأتي المساء" التي لحّنها وغناها محمد عبد الوهاب من كلمات محمود أبو الوفا، حيث كتب لها وجدي بنجول كلمات تركية وأعاد توزيعها الموسيقي نور الدين سلجوق في أغنية "Otomobil Uçar Gider". وحدث ذلك أيضاً مع أغنية "أهواك" التي غنّاها عبد الحليم حافظ بألحان محمد عبد الوهاب، حيث أُعيد توزيعها بكلمات تركية، وقام بغنائها أكثر من مغنٍ تركي، أبرزهم زكي موران في أغنيته الشهيرة "Gitme Sana Muhtacım".
جدير بالذكر أن كتاب أوزيلدريم حظي باهتمام النقّاد والمؤرخين أيضاً إلى جانب القرّاء، حيث اعتبره المؤرخ سليم أيدوز مهمّاً للغاية وإيجابيّاً في سياق التبادل الثقافي العربي التركي. ولا يخلو الكتاب أيضاً من الحكايات الشيّقة حول علاقات المغنّين العرب والأتراك، كتفاصيل زيارة المغنية التركية الشهيرة موزين سنار إلى مصر عام 1950، والمغنية التركية بريهان ألتينداغ سوزيري إلى مصر أيضاً عام 1952 حيث تعلّمت من أم كلثوم أغنية "غنيلي شوية شوية"، وقامت بغنائها بعد ذلك في كازينوهات إسطنبول بالعربية.