مع ارتفاع موجات القومية في تركيا بالسنوات الأخيرة، وازدياد حالة الاستقطاب السياسي والانقسام المجتمعي الحاد، وخصوصاً في هذه الأيام التي تشهد فيها البلاد عملية الانتخابات الرئاسية، لم يقتصر كل هذا على الجوانب السياسية فقط، لكنه انعكس على الحياة اليومية في تركيا، وعلى الثقافة والأدب أيضاً. وفي مثل هذه الأجواء، عادت تساؤلات قديمة، نوقشت قبل 30 عاماً في تركيا، إلى الأوساط الثقافية من جديد.
من أبرز هذه الأسئلة: أي المصطلحين أصحّ؛ "الأدب التركي" أم "أدب اللغة التركية"؟ أسباب عديدة أعادت طرح سؤال كهذا من جديد، إلا أن السبب المباشر لعودة النقاشات حول هذا الموضوع، هو أن مكتبة "جامعة بوغازيتشي" بإسطنبول، قد علَّقت في الأيام الأخيرة ملصقات تحمل عناوين أقسام "الأدب الفرنسي"، و"الأدب الألماني"، و"الأدب الإنكليزي"، بينما وضعت على قسم الأدب التركي ملصقاً يحمل عنوان "أدب تركيا".
وقد نشر الشاعر وأستاذ الأدب التركي الحديث بـ"جامعة غازي عنتاب"، قآن أمين أوغلو، قبل أيام، صوراً لهذه الملصقات على "تويتر"، ولفت الانتباه في تغريدته إلى أن بعض دور النشر التركية قد بدأت في التَّخلي بالفعل عن مصطلح "الأدب التركي"، واعتماد مصطلحات مثل "أدب تركيا" أو "أدب التركية" بدلاً منه، وأنه أعدَّ قائمة بأسماء هذه الدور. كما دعا القُرّاء والكُتّاب والمثقفين إلى مقاطعتها حتى تتخلى عن تطبيق المعايير المزدوجة، وفقاً لرأيه. وقد حصلت تغريدة أمين أوغلو على الكثير من الدعم.
دعوة لمقاطعة دور نشر تخلّت عن تعبير "الأدب التركي"
ومن بين المؤيدين لفكرة مقاطعة دور النشر التي تستخدم "أدب التركية"، الشاعر أونور جايماز، الذي علَّق قائلاً: "لنقاطع دور النشر التي تسمي الأدب التركي، أدب اللغة التركية، فلا نشتري الكتب التي ينشرونها. أنا لا أرسل أعمالي إلى المجلات والصحف التي تتبنى هذا الموقف". وبعيداً عن فكرة مقاطعة دور النشر، فقد أيَّد الشاعر والناقد بشير أيواز أوغلو، في تصريح صحافي، استخدام مصطلح "الأدب التركي"، مبرراً ذلك بأنه وجد مصطلح الأدب التركي صحيحاً، لأن مصطلح "أدب التركية" يبدو كمقاربة أيديولوجية. كما يرى أن هذا التعبير يصلح مع اللغة الإنكليزية لأنها لغة عالمية، فمن الممكن تسمية أدبها بـ"أدب الإنكليزية"، "لكن اللغة التركية ليست كذلك".
جدير بالذكر أن بعض أسماء دور النشر، التي دعا الشاعران لمقاطعتها وأيَّدهما عدد غير قليل من الكُتَّاب والمثقفين، هي دور نشر تحمل أسماء كبيرة وراسخة في تركيا، مثل دار "إيليتيشيم"، و"أيرنتي"، و"إيتهاكي"، و"جان". وقد تفاعل بعض هؤلاء الناشرين مع هذه المناقشات، وردوا في بيانات مختلفة.
ففي بيان نشرته دار "أيرنتي"، صرَّح إلباي كهرمان، رئيس تحرير الدار، قائلاً: "هناك كُتَّاب في بلدنا يكتبون باللغة التركية، لكن أصولهم العرقية ليست تركية. على سبيل المثال، يشار كمال كردي لكنه يكتب باللغة التركية. وبرهان سونميز كردي، لكنه ينشر أعماله باللغة التركية، كما أنه يفضِّل استخدام 'أدب التركية'. إن تعبير 'أدب التركية' هو تصنيف أكثر شمولاً. نحن نعتبر كلَّ مَن يكتب أعماله باللغة التركية، بغض النظر عن أصله العرقي، أدباً تركيّاً. إن رواية 'الرفيق بانتشوني' لإيرفانت أوديان تصف شرق الأناضول، لكنها كُتبت باللغة الأرمينية، لذلك فهي من أدب اللغة الأرمينية. ومن ناحية أخرى، فإن عمل الكاتب المكسيكي ليس 'أدباً مكسيكيَّاً' بل من 'أدب اللغة الإسبانيّة'".
وبينما دافع كهرمان عن وجهة نظر الدار التي يترأس تحريرها في استخدام مصطلح "أدب التركية"، أدلى جان أوز، صاحب دار نشر "جان"، إحدى دور النشر التي ورد اسمها في المقاطعة، ببيان أيضاً، وممّا ورد فيه: "أولاً، وقبل كلِّ شيء، نحن لا نستخدم تعبير 'أدب تركيا'، لكننا نسمّيه 'أدب الأتراك'. هذا هو تقليدنا وقرارنا. قد يفضل ناشر آخر استخدام 'أدب التركية'، ويمكنكم مقاطعته أو العكس. أحترم خيارات القُرَّاء، لكنني أدين أصدقاءنا من عالم الأدب الذين أشعلوا هذه النار".
يقول مناصرو "أدب التركية" إنه أكثر شمولاً وأقل تمييزاً
وكان من بين أبرز المدافعين عن استخدام مصطلح "أدب التركية"، الشاعر شكرو إرباش، حيث علَّق على هذا النقاش قائلاً: "هناك حقيقة عامة يتم قبولها مُسبقاً، وهي أن اللغة التي يُكتب بها الأدب تشير مباشرة إلى الأصل العرقي واللغة الأم للشخص. إذا كنتَ تكتب أدباً باللغة الإنكليزية، فأنت إنكليزي. ومع ذلك، عبر التاريخ، كان على الناس أن يعيشوا بلغة أخرى بسبب الهجرات والحروب والكوارث الطبيعية والعديد من الأسباب الأخرى، أو كان عليهم أن يتعلَّموا لغة الأشخاص المهيمنين في جغرافيتهم. هذه الحياة الجديدة أبعدتهم تدريجياً عن لغتهم الأم. وهذه اللغات المسجونة في بيوتهم لا تستطيع أن تتنفس. وبعد فترة، يبدأ الناس حتماً في التحدث والكتابة باللغة التي كانوا يعيشون بها. هنا تكمن معضلة الأشخاص الذين تتعين عليهم الكتابة في مثل هذا الواقع. نحن نعلم أنه بغض النظر عن أصلنا العرقي، ومهما كانت اللغة التي نكتب بها، فإن الأدب الذي نصنعه ينتمي إلى تلك اللغة. ومع ذلك، فإن هذا لا يجعل الشخص الذي يكتب بهذه اللغة ينتمي إلى جنسية تلك اللغة. يشار كمال هو ذروة الأدب التركي، لكن هذا لم يغير حقيقة أنه كان كرديّاً. أعتقد أن تسمية 'أدب التركية' هي التسمية الصحيحة التي لا تضعنا في موقف صعب أمام الأمثلة التي ذكرتها".
حاول بعض الكُتّاب أن يوفقوا بين التعبيرين، وكان من أبرزهم الروائي والباحث إسكندر بالا، الذي قال في تصريحاته إلى الصحافة التركية حول هذا النقاش: "'الأدب التركي' هو تعبير تم استخدامه لفترات طويلة ويحمل تراكم حضارتنا. عندما نقول الأدب التركي فإننا نعني الأدب الذي يمتد إلى أعماق التاريخ وقد صنع مفاهيم وأساليب مختلفة منذ القدم. ولكن يبدو أن استخدام تعبير 'أدب التركية' أصبح ضرورة في العصر الحديث. وهو يشمل الأدب التركي الذي أبدعه كُتَّاب من مختلف اللغات والأديان والأعراق الذين يعيشون في تركيا. وهذا يثرينا ولا يضرنا في شيء. لكنني بالنظر إلى أعمالي، أعتقد أنه من الممكن تصنيفها ضمن 'الأدب التركي'".
وهناك أيضاً بعض المثقفين الذين رأوا أن هذا التمييز بين المصطلحات لا طائل من ورائه، من بينهم المؤرخ التركي البارز إلبر أورطايلي، الذي كتب في عموده بصحيفة "حريات": "هذه ادعاءات لا أساس لها، لا يمكن أن يكون هناك 'أدب تركي' و'أدب باللغة التركية'. إن كتابات النمسا دخلت الأدب الألماني كما دخلت الكتابات البلجيكية والسويسرية أيضاً الفكر والأدب الفرنسي. الشاعر نظامي تركيّ، لكنه شاعر باللغة الفارسية، وقد تحوَّل شهريار، شاعر الأدب الإيراني المعاصر، وهو تركي المولد، إلى الكتابة باللغة التركية، بدلاً من الفارسية، بعد أن قالت له أمه: 'لا أفهم ما تقوله، قصائدك هذه لا تهمني'، وكتب تحفة 'حيدر بابا' ودخل بها الأدب التركي. في اللغات الأوروبية تعبّر كلمات مثل 'الفرنسية'، و'الإنكليزية'، و'الألمانية' عن اللغة، وتصبح صفة للأعمال والهوية في تلك اللغة. أعتقد أن الذين يريدون هذا التمييز بين الأدب التركي وأدب التركية، يريدون استخدام القواعد بهذه الطريقة".
أيّاً يكن، يبقى من الأكيد أن عودة هذه النقاشات مرتبطة بشكل كبير بالأحداث السياسية في البلد بالمرحلة الأخيرة، في ظل انقسام مجتمعي كبير، في بلد بالأساس متعدد الأعراق مثل تركيا. كما يبدو أن هذا التساؤل لا يتعلق بالنص الأدبي بقدر تعلُّقه بالموقف السياسي لقُرّائه.