استمع إلى الملخص
- **الكتاب الجماعي "الاحتفال بالمولد النبوي"**: أصدر معهد الدراسات حول العالم العربي والإسلامي في فرنسا كتاباً يضم خمسة عشر باحثاً، مقسماً إلى ثلاثة أقسام تتناول الجوانب الفقهية، الاجتماعية، والفنية للاحتفال.
- **تحليل علمي لظاهرة الاحتفال**: يعبر الاحتفال عن الهوية العربية-الإسلامية ويكمل العيدين الشرعيين، ويستغل سياسياً لتجديد الشرعية. النقاشات حوله حية ومؤثرة في الوقت الراهن.
مع إطلالة شهر ربيع الأول من كلّ سنة هجرية، تحتدُّ النقاشات حول المشروعية الدينية للاحتفال بـ المولد النبوي بين مدافعين يَرون فيه مناسبة لاستذكار الشمائل المحمّدية ومعارضين يعتبرونه "بدعة". وبين الفريقين، يزدهر خطابٌ فقهي ذو طبيعة جدلية حول وجاهة هذا العمل ويستنفر أقيسةً ونصوصًا بعضها نقليّ وجلُّها عقليّ.
على صعيد الواقع المعيش، تُسجّل المجتمعات العربية الإسلامية، رغم اختلاف طبيعتها وأنظمتها، العديد من مظاهر الاحتفال الشعبية والرسمية التي تُقام في دول عديدة مثل مصر واليمن والمغرب، حيث يعدّ يوم الثاني عشر من ربيع الأول عطلة رسمية. وفي المقابل، ثمّة دول أُخرى، أشدّ محافظة، لا تُولي أيّ اهتمام رسمي بهذا اليوم.
نحو هذه التناقضات التي تسِمُ الخطاب والواقع، تَوجّه قرابة خمسة عشر باحثًا فرنسيًّا وعربيًّا مُقيمين في فرنسا، بغاية استنطاق الممارسات والتمثّلات العالِمة والشعبيّة التي تتّصل بهذه المناسبة وذلك في كتاب جماعي تحت عنوان "الاحتفال بالمَولِد النبوي: الخطابات والممارسات والتصوّرات"، صدر مؤخَّرًا عن "معهد الدراسات حول العالَم العربي والإسلامي" في فرنسا (IREMAM).
بحثٌ جماعي عن "عيد" يُكمل، شرعيًّا، الأضحى والفطر
يتضمّن هذا الكتاب مقدّمة كتبها المُشرفَان على هذا المشروع، الذي استغرق إعْدادُه قرابة السنتين، وهُما: فريد بوشيبة ومريم العقيلي اللذان استعرضا الرهانات المعرفية والمنهجية للدراسات التي سبق أن تناولت هذه الظاهرة مع التذكير بأهم الكتب والمقالات وتوجّهاتها في تحليل هذا الموضوع المتجدّد الذي كان قد تناوله مختصّون في تفكيك مظاهر الاحتفال في المجتمعات العربية والإسلاميّة.
توالت بعد ذلك فصول الكتاب التسعة وتوزّعت إلى ثلاثة أقسام كبرى: فالقسم الأول الموسوم: "النقاش الفقهي المذهبي عبر التاريخ" تضمن بدوره ثلاث دراساتٍ، أعدّ الأُولى أحمد ولد داي وتطرّق فيها إلى الاحتفال بالمَولد في الغرب الإسلامي إبّان العصور الوسطى، على ضوء الفتاوى الفقهية التي جمعها الونشريسي (1430 - 1509). وتناول كاتب هذه السطور شرعية الاحتفال لدى المُفسّر التونسي محمد الطاهر بن عاشور (1879 - 1973). وفي المبحث الثالث، تناول مهدي بالرياح قضية الغموض والحيرة حول الاحتفال بالمولد في كتابات ابن تيمية وتوظيفها في المناقشات الدينية المعاصرة حول هذه القضية نفسها.
وهكذا، كان هذا القسم استنطاقًا للمواقف الفقهية التي ساعدت على التشريع لهذا الاحتفال أو بالعكس سعت إلى "تبديعه" مع استعراض نظام البرهنة التي لجأ إليها هؤلاء العلماء ضمن سياقاتهم السياسية والثقافية وانتماءاتهم المذهبيّة.
أمّا القسم الثاني فيحمل عنوان: "مقاربات اجتماعيّة أنثروبولوجيّة"، وفيه أبحاث حول البُعد الاجتماعي لهذه الاحتفالات حيث عالج عز الدين كنزي أشكال التنظيم المجتمعي والتقاليد القروية المتعلّقة بالاحتفال بالمولد النبوي لدى المُرابطين بالشُّرْفة (منطقة القبائل الجزائرية). نفس السؤال طرحه الباحث السنغالي ماكوبا ديوب الذي حلّل كيفية احتفال الشيعة والطقوس الممارَسة خلال المولد في غامو (السنغال). وأخيرًا حلّل صادق سلام قصيدة للشيخ ابن باديس عن المَولد النبوي صاغها سنة 1937 مُثيرًا بذلك جدل الإصلاح والفكر الوهابي في الجزائر إبّان الحقبة الاستعماريّة.
وهكذا ركز هذا القسم على الممارسات الشعبية الواقعية للاحتفال بكل أبعادها النفسية والجماعية، وكيف أصبحت هذه المناسبة موسمًا لتغذية الشعور بالانتماء وتقوية الإحساس بوجود رمز جامع يعين على تجاوز الأزمات. ممّا يؤكّد أنّ الاحتفال، أو الامتناع عنه، كلاهما، استجابة لضغوط خارجيّة وشكلٌ من أشكال التنفيس عن الصعوبات التي تواجه العرب والمسلمين في معيشهم اليومي؛ فهو تكسير للرتابة بآلية مزدوجة: فمن جهة، يستعيدون المثَل الروحي الأعلى الذي يُتيح لهم الانعتاق من قيود اللحظة وكثافة المادة الخانقة. ومن جهة ثانية، هو زمنُ ابتهاج نفسي وشعبي يفيض بمشاعر الغبطة التي تُخفّف من كَرّ الليالي والأيام وتتاليها الثقيل.
اهتمّ القسم الأخير بالنّتاج الأدبي والفنّي المتّصل بهذه الاحتفالات وتضمّن بدوره ثلاثة مقالات: الأول بقلم أريانا توليبي التي خصّصت بحثها لتفاني النساء في حب النّبي من خلال البِناء الأدبي لصيغة غير رسمية للمَولد النبوي تجلّت في "كتاب الأنوار" لأبي الحسن البكري. وركّز أنتونيو كيكسونيلي على الجنس الفنّي للمَولد كما ارتسم في منتصف القرن الثامن عشر للميلاد في مَولد البَرَزنجي، ليكون هذا القسم بحثًا في الخصائص الأسلوبية والفنّية لنصوص "المولديات" التي باتت تمثّل جنسًا فنيًّا على حِدة، يتميّز عن السيرة النبويّة بمعناها التاريخي الخطّي وبتركيزها على الأحداث المشكّلة لنسيجها. كما يختلف جذريًّا عن كُتب الحديث والشمائل والمغازي من خلال المُراوَحة بين الشعر والنثر والتزام السجع في رَسْم معالم الخصائص النبوية مع إثبات إرهاصات الولادة وما حصل فيها من مُعجزات وخوارق رغم أن بعض علماء الحديث قد يشكّك فيها. ومن بين هذه المولديات نذكر نصوص المناوي وابن الدَّيْبَع والبكري والرياحي، وغيرها كثير صِيغت بالعربية والفارسية والتركية.
نقاشٌ متّصل بحضور المقدّس في الحياة اليومية وتوظيفاته
وهكذا، يهدي مجموع هذه الدراسات تحليلًا علميًّا لظاهرة دينية يختلط فيها المقدّس بالدنيوي والديني بالثقافي، ذلك أن مناسبة المولد النبوي وما يجري خلالها من احتفالات شعبية ورسمية ثم ما يدور حولها من خطابات ومناقشات هي فرصة للتعبير الجماعي عن باطن الهوية العربية-الإسلامية في بحثها عن "عيد" يكمل العيدَيْن الشرعيِّين (الفطر والأضحى) أو يعمّم آثارهما عبر الالتفاف حول شخصية جامعة، وكسر رتابة الحياة اليومية وما فيها من ضغوط وتوتّرات، لا سيّما في المناطق الفقيرة التي تُعاني غلاء المعيشة واضطهاد الأنظمة السياسية. ولذلك تُصبح أيضاً فرصة للتكامل الاقتصادي والتضامن بين الفئات الاجتماعية. كما توفر فرصة ثمينة تستغلها السلطات السياسية لتجديد شرعيتها وإظهار نفسها بمظهر "حامي الدين" في ضربة تسحب الشرعية من أحزاب الإسلام السياسي.
وليست هذه المناقشات ماضيًا انقضى، بل هي خطابٌ حيٌّ ومؤثّر في الوقت الراهن، سواء كان ذلك على شبكات التواصل الاجتماعي أو على أرض الواقع في المساجد والزوايا الصوفية، ومؤخّرًا في المسارح والفضاءات العمومية حيث تستغلّ بعض جمعيات المجتمع المدني هذه المناسبة للقيام بتظاهرات ثقافية مثل عروض الإنشاد الروحي والرقص الصوفي أو حتى الملابس والأطعمة التقليدية. وقد تصير فرصة لإثارة حتى قضايا البيئة والتراث... ممّا يؤكّد أن المسألة أبعد من مولد النبيّ وما حصل إبّانه فعلًا، فهي تتّصل بحضور المقدّس الديني ضمن الحياة اليومية وآليات استجلاب هذا المقدّس وتوظيفه.
واللّافت كما أثبتت هذه الدراسات أنّ كُلًّا من المعارضين والمتحمّسين للاحتفال يلتقون لدى نقطة واحدة: التعبير عن التعلّق بشخصية النبيّ واتّباع سنّته وإحياء ذكراه: فالمناوئون لها يتركون هذه البدعة، والمتحمّسون يُحيونها لأنها طريق لإماتة البِدعة والتعبير عن المسرّة بأعظم رمز ديني. ويُنبئ هذا التغايُر عن نمطَيْن في التعامُل مع الذاكرة الدينية وممارسة الشعائر والعقائد في عالم اليوم المتحوّل، المحكوم بالاستهلاك والرغبة في الاستعراض عبر الوسائط الاجتماعية والخاضع لمبدأ الفُرجة التي باتت تُلازم كلّ تحرّكات إنسان القرن الحادي والعشرين.
من جهة ثانية، تظهر جِدّة هذا العمل في إخضاع ظاهرة الاحتفال بالمَولد بمضامينها الدينية والثقافية للمُعالجة العِلمية التي تُحلّل أبعادها الاجتماعية والنفسية والفنّية، بمعنى أنّ الدِّين خضع لدى باحثين عرب ومسلمين إلى النظر العِلمي بعد أن كان ذلك حكرًا على المستشرقين، من دون أن يعني ذلك قصور هؤلاء الباحثين في التضلّع بالمناهج النقدية ولا وقوعهم في مواقف ازدرائية من ظواهر مجتمعاتنا كما لو كانت بدعًا من المجتمعات.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس