يلعب الاقتصاد السياسي دوراً مهمّاً في تشكيل أبعاد القضية الفلسطينية. ومع حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزّة، من المهمّ النظر للموضوع من جهة البُنى والتفاعلات الاقتصادية - السياسية للفاعِلين على الساحة في ظلّ النمط الاقتصادي المُهيمن عالمياً، وفي ظلّ خصوصية اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي كاقتصاد حرب، والاقتصاد الفلسطيني كاقتصاد خاضع للاحتلال. ضمن هذا الإطار نظّم، أخيراً، "منتدى البدائل العربي للدراسات" في بيروت، ندوة بعنوان "الاقتصاد السياسي للقضية الفلسطينية: مقاربة للعدوان على غزّة"، بُثّت عبر قناة "موقع صفر" على "يوتيوب"، وتحدّث فيها كلٌّ من الصحافي والأكاديمي وائل جمال، والباحث جيلبير الأشقر، ومدير "معهد كينيون" في القدس توفيق حدّاد، وأدارها محمد العجاتي.
"الإمبريالية كمدخل لفهم الحرب على غزّة" عنوان المُداخلة الأولى التي قدّمها الصحافي والأكاديمي المصري وائل جمال، ولفت فيها إلى أنَّ مصطلحات كـ"الاستعمار الجديد" و"الإمبريالية" يجب أن تكون واضحة في السياق العربي. ورغم أن الحرب الروسية - الأوكرانية، كانت مؤشّراً، منذ العام الماضي، على عودة التوغّلات المسلّحة، إلّا أن ما نشهده من عدوان إسرائيلي على غزّة، بالتواطؤ مع دعم أميركي مفتوح، خصّص فيه الرئيس جو بايدن أكثر من 14 مليار دولار للمجهود الحربي الإسرائيلي، يجعلنا أمام نموذج "غاشم" يفوق كلّ ما سبقه، وبالتالي فإن فكرة التدخّلات المُباشرة للدول الكبرى لم تنته بعد.
وعن احتمالية أن يكون العدوان الحالي مرتبطاً بموارد غزّة وثرواتها من الغاز في البحر، ذهب جمال للقول إن ذلك جزء من الصورة وليس كلّها، لأن الإمبريالية مفهوم أوسع من الأسباب المباشرة، وإن كانت تتأثّر بها، فهي حالة من تركُّز رأس المال في مراكز احتكارية عالمية، ولكنها تُعاني، اليوم، من عوائق في استخلاص الأرباح، وكذلك إدارة الأزمات الكبرى كالتغيُّر المناخي ووباء "كوفيد 19". وعلى مدى خمسين عاماً، لم تنقطع، وفقاً لجمال، عمليات استحصال الأرباح من العالم النامي، بل إن كلّ دولار يذهب لمعونة الدول النامية يقتطع منها، في المقابل، 24 دولاراً.
العدوان على غزّة يُؤكّد أن التدخّلات الإمبريالية لم تنته
وتابع الباحث، قائلاً إنَّ التدخّلات الإمبريالية لا تقتصر على الحروب، بل بعضها يأخذ شكل القروض. فعلى سبيل المثال، لو أردنا قراءة الدور المصري السياسي في الحرب الحالية على غزّة، لا يُمكن تجاهل حقائق من قبيل مديونية مصر بـ 168 مليار دولار، وإنَّ جزءاً كبيراً من احتياطاتها النقدية مملوكٌ مباشرةً للودائع الخارجية، وهذا يطوّق القرار الوطني ويُحدّد من دوره. بل إن الحديث عن الديون يُذكّر باللحظة التي استُعمرت فيها مصر، وسُيطر فيها الإنكليز على قناة السويس.
وختم جمال بأن هناك فكرة سادت لفترة، مفادُها أن كلّ من يعيش في الدول الإمبريالية مستفيدٌ منها، بشكل أو بآخر، بمن فيهم الطبقات العاملة، ولكن أمام الزخم الشعبي في المدن الغربية، المُناصر للقضية الفلسطينية، والذي بلغ في مدينة كلندن أن يخرج فيها أكثر من مليون متظاهر، فإن فكرة التحالفات مع القواعد في دول المركز أُعيد طرحُها ونقاشُها من جديد.
بدوره قدّم الباحث اللبناني جيلبير الأشقر مداخلته حول "الحرب استمرارٌ للسياسة التي هي اقتصاد مُركَّز"، وتناول فيها المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعاً سياسياً سابقاً على وجود "دولته"، وهو بطبيعته الجوهرية قائم على الاستعمار الاستيطاني، الأمر الذي يعني بالضرورة، أنه قائم على العنف العسكري، وبالتالي "الكيان الصهيوني وُلِد بالسلاح وعاش بالسلاح"، وأشدّ ما تنطبق عليه مقولة "اقتصاد الحرب الدائمة". ولفت الأشقر إلى أن المجمّع العسكري الصناعي في "إسرائيل" يتقارب مع دوره في حالة الولايات المتحدة الأميركية، حيث يتولّى الإنفاق على شؤون البحث العِلمي، وعليه فإن الحواجز الفاصلة بين القطاعين العسكري والمدني قد تلاشت، بفعل التطوّر التكنولوجي، أليس أصل شبكة الإنترنت بدأ في المختبرات العسكرية الأميركية؟
التوأمة الصهيونية مع هذا النموذج، حسب الباحث اللبناني، لا تقتصر على النزعات الاستيطانية واقتلاع الشعب الأصلي من أرضه فحسب، بل تعدّى ذلك إلى وضعية "جيش لديه دولة". فالقطاع العسكري، هنا، هو العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. حيث تشغل الميزانية العسكرية، في الظرف العادي قبل الحرب، 15 بالمئة من النفقات العامة، وهي نسبة عالية مُقارنة بدُول مُصنِّعة أُخرى. كذلك فإنّ 40 بالمئة من الصادرات الإسرائيلية عسكرية وأمنيّة، وكلّ ما سبق يأتي برعاية وتدخُّل أميركي مباشر.
أمّا الباحث الفلسطيني توفيق حدّاد، فانطلق في مداخلته "اقتصاد يقوم على الإفقار التنموي في فلسطين" من عام 1967، حيث شهدت البلاد، منذ ذلك التاريخ إلى أوائل التسعينيات، تبعيةً غير مسبوقة بين اقتصاد المستعمِر والمستعمَر، وبدأنا نلاحظ دخولاً للأيدي العاملة الفلسطينية في سوق العمل داخل الأراضي المحتلّة، مع ضغط إسرائيلي كبير يهدف إلى "نزع التنمية" من الضفّة وغزّة، لإبقاء الاعتماد على السوق الإسرائيلية، عبر "مشروع ألون"، ومَنْع تشكّل فائض مالي يستطيع الشعب الفلسطيني الاستفادة منه مستقبلاً. وعندما جاءت "اتفاقية أوسلو" عام 1994، لم تكن بعيدة عن هذا الفهم، بل مهّدت بشكل أو بآخر إلى تعزيز "الأبارتهايد"، بمباركة من المجتمع الدولي.
أربعون في المئة من الصادرات الإسرائيلية عسكرية وأمنية
أمّا بعد 2006، فذهب حدّاد إلى القول إن الانقسام السياسي على الساحة الفلسطينية بين الضفة وغزّة، انعكس على الاقتصاد أيضاً، حيث انصبّت التمويلات على الضفة لغاية سياسة، بهدف تصفية آثار الانتفاضة، والبدء بالحصار الإجرامي على غزّة، ولكن لو توخّينا الدقة، حسب الباحث الفلسطيني، فإن الحصار بمفاعيله الحقيقية قد بدأ قبل ذلك التاريخ. ولكن "حماس" لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الوضعية، بل امتصّت القوة العاملة، ووظّفتها في مشروعها البنيوي، وخصوصاً بُعيد الحروب، وما يصحبها من فترات إعادة الإعمار.
وختم حداد مداخلته بأن التفسير الأوضح للتحشيد الغربي الهائل لصالح "إسرائيل"، هو أن هذه القوى شعرت بأن عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد خرقت الخطّ الاقتصادي - التطبيعي الذي كانت المنطقة ذاهبة إليه، والذي ينطلق من الهند ويمرّ ببعض الدول العربية وصولاً إلى حيفا المحتلّة، ومنها يستكمل طريقه لتغذية الجغرافيا الأوروبية بالموارد.